يبحث كتاب عبد الرزاق الدواي «في الثقافة والخطاب: عن حرب الثقافات» في مفهوم الثقافة وتطوره، ويتناول الثقافة في التحليل النفسي والإنثروبولوجيا، كذلك الثقافة بوصفها مكوناً من مكونات الهوية.

Ad

ويتطرق الكتاب لمناقشة آراء وأفكار شديدة الحيوية مثل «تفوق الثقافة الغربية» و{حرب الثقافات» و{صدام الحضارات»، و{الحوار بين الثقافات»، علاوة على إشكالية العولمة الثقافية، والهوية في زمن العولمة والفضائيات. ثم يتصدى بالنقاش لآراء عدد من المفكرين والمؤرخين والباحثين أمثال السيد ياسين ورضوان السيد ووجيه كوثراني ومحمد عابد الجابري ونادية مصطفى، ليخلص إلى الاستنتاج أن مقاومة العولمة لا تعني، ويجب ألا تعني، رفض الحداثة ومكوناتها كالعقلانية والتنوير والعلم والديمقراطية وحقوق الانسان، بل إن المقاومة المجدية للعولمة يجب أن تعتمد على القيم الإنسانية للحداثة نفسها.

عرض تحليلي

قسّم المؤلف الكتاب إلى خمسة فصول. في الفصل الأول، قدّم عرضاً تحليلياً ونقدياً لما نعتبره عناصر تصوّر جديد لإشكالية الثقافة، كذلك رصد مجمل التحوّلات الدلالية التي طرأت على الخطاب العام عن الثقافة، ابتداء من النصف الثاني من القرن العشرين، وصعوداً إلى الطلائع الأولى من القرن الجديد. وقد تبيّن أن أهم تلك التحوّلات تتعيّن أساساً في كون مفهوم الثقافة قد أصبح، أول مرة في مسار تطوره الدلالي، مرتبطاً بقيَم ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبقضايا التحرّر والتنمية عموماً، فضلاً عن أن النقاش الدائر حوله أضحى الأكثر حضوراً في نقاشات المفكرين والسياسيين، وفي المنابر والمؤسسات الدولية المختصة.

في الفصل الثاني، تناول المؤلف إحدى الأطروحات المهمة المرتبطة بإشكالية الثقافة، والمستأثرة فيه بالنقاش منذ التسعينيات من القرن الماضي، وهي أطروحة: {صدام الحضارات وحرب الثقافات}. وقام المؤلف بإطلالة على مضامين خطابات غربية معاصرة حول الأطروحة المذكورة؛ وهي خطابات صاغها جميعها مفكرون أميركيون مرموقون. وقد اختار المؤلف مناقشة اثنين من تلك الخطابات، يُعدّان في رأيه الأكثر شهرة وإثارة. الخطاب الأول معروف بإعلائه مكانة الثقافة الغربية، وخاصية العالمية التي يقول إنها تتميز بها، ويتوقع انتصارها الحتمي في ميدان {حرب الثقافات}. ومن هذا المنظور، يعلن فكرة {نهاية التاريخ}. أما الخطاب الثاني، فيشكّك في مصداقية فرضية الخطاب الأول، ويتنبأ في المقابل بأن مرحلة جديدة من التاريخ قد بدأت فعلاً، واصفاً إياها بأنها مرحلة {صدام الحضارات وحرب الثقافات}. وقد أفرد في نهاية الفصل فقرة خاصة للحديث عن المسكوت عنه في الخطابين المذكورين.

في الفصل الثالث، اهتم المؤلف بإشكالية الحوار بين الثقافات وسياقات تطوّرها في الفكر المعاصر. وكان منطلقه في ذلك التساؤل التالي: في هذه المطالع الأولى للألفية الثالثة، هل يمكن القول إن الحوافز والإمكانات والشروط، الكفيلة بإنجاح مبادرات إقامة حوارات مثمرة ومستمرة بين الثقافات البشرية، تتوافر فعلاً؟ في سبيل الإجابة عن التساؤل المذكور، سعى المؤلف إلى إبراز ما يعتبره عراقيل تنتصب أمام محاولات إيجاد أرضية ومبادئ عامة للحوار الثقافي، على الصعيد العالمي، يقبل بها الجميع، خصوصاً إذا أخذ في الحسبان واقع عالم اليوم الذي انكشفت فيه حقيقة أن كل واحد من الكيانات الثقافية الموجودة فيه، يتشبّث بمنظومته المرجعية والقيمية الخاصة، بدرجات تتفاوت من حيث التطرّف.

فضلاً عن ذلك، فإن ظاهرة العولمة الثقافية، التي اكتسحت معالمها وتجلياتها العالم، واخترقت جميع الحدود الثقافية، لم تُعد تسمح بأن يستمر تطوّر المبادلات الثقافية بين بلدان العالم مصادفة، أو بشكل إرادي وحُر. بل لقد أضحت تفرض على مختلف الكيانات الثقافية اختياراً حاسماً: إما الاندماج والانصهار التدريجي، في منظومة جديدة من قيم ومبادئ ما يسمّى النظام العالمي الليبرالي الجديد، وإما التقوقع والانكماش المفضيان مع مرور الزمن إلى العزلة القاتلة.  

نقاش نقدي

في الفصل الرابع، قدم الكاتب حصيلة تركيبة مركزة للنقاش العربي النقدي لإشكالية {صدام الحضارات}، ومعها لمحة عن موضوع {حوار الحضارات}، الذي ولد من رحم اعتراضها والتصدّي لها. وقد ضمّنها نماذج مما رأى فيه تعبيراً تقريبياً لتوجهات عامة مشتركة بين خطابات المساهمين العرب في النقاش المذكور، مفكرين وأكاديميين وباحثين.

أما الفصل الخامس، فقد خصصه المؤلف للنظر في إشكالية {الهوية والعولمة الثقافية}. واقترح فيه مساهمة في تحليل تجليات العولمة الثقافية، وانعكاساتها الواقعية والافتراضية، على الثقافة وعلى الخصوصيات والهويات الثقافية، بالنسبة إلى البلدان السائرة على طريق النمو عموماً، وبالنسبة الى الأقطار العربية والإسلامية منها خصوصاً، وهذه الظاهرة تُعدّ في طليعة الأحداث الكبرى التي تحرّك العالم المعاصر وتُهيمن على مجرياته. ومن شأن ذلك أن يُنشئ في جميع أنحاء المعمور أوضاعاً وعلاقات ثقافية غير متكافئة يغلب عليها طابع التبعية والهيمنة.

من خلال هذا المنظور، لاحظ الكاتب أن الاهتمام بإشكالية الهوية الثقافية يتعاظم يوماً بعد يوم، بسبب تجدّد مشاعر الارتباط العاطفي المثالي بالأرض، وبالذاكرة الجماعية وبالتاريخ، والحنين الى الماضي وإلى الأوطان عموماً، إضافة إلى التأثيرات التي تخلقها أيديولوجيات التحرر الوطني، والانتفاضات والثورات الشعبية الجديدة، التي يتم إنجازها بفضل عزيمة الشعوب، وإمكانات التواصل العالمي الشامل والسريع التي تتيحها التكنولوجيات الجديدة. ساهم تضافر العناصر المذكورة بقدر وافر في تكوين المضمون الحديث لمفهوم الهوية الثقافية، بل في شحذه وشحنه بحمولة وجدانية قوية لم تكن مقترنة به سابقاً. ولم يخف المؤلف تبنّيه تصوراً متميزاً لمفهوم الهوية الثقافية، سعى إلى تجلية بعض عناصره، من بينها فكرة مفادها أن الحالة الطبيعية والسوية لأي ثقافة وهوية ثقافية هي أن تظل قادرة على التطوّر والانفتاح والاغتناء والعطاء، وعلى بناء جسور التواصل مع الثقافات العالمية.