أيام وليالٍ هنية في أجواء الجنادرية
بدعوة كريمة من سمو الأمير متعب بن عبدالله بن عبدالعزيز، رئيس الحرس الوطني، رئيس اللجنة العليا للمهرجان الوطني للتراث والثقافة، شاركت مع المئات من المثقفين والمفكرين والإعلاميين من مختلف دول العالم، في حضور فعاليات المهرجان الوطني السنوي المعروف بـ"الجنادرية" في دورته الثامنة والعشرين، وهو ملتقى سنوي حيوي: تراثي وفني وثقافي وفكري، يهدف إلى تعزيز المناعة المجتمعية والحفاظ على الهوية الوطنية عبر الربط بين التكوين الثقافي للمجتمع السعودي بالميراث الإنساني الكبير ومزج الموروث الأصيل بالإنجاز الحضاري المعاصر. لعل التساؤلات المطروحة: كيف تطور مهرجان الجنادرية الذي بدأ قبل 28 عاماً في القرية التراثية (الجنادرية) من أفقه المحلي، ليصبح مهرجاناً وطنياً عاماً مشهوداً يحرص على حضوره ما لا يقل عن 500 مثقف ومفكر من كافة أنحاء العالم غير ملايين الزائرين سنوياً؟! إن لذلك قصة طويلة، وما تحقق اليوم، هو ثمرة نجاح لمسيرة طويلة من التخطيط الدقيق في مواجهة التحديات وتذليل العقبات، ومحصلة الإفادة من الدروس والتجارب السابقة ونتاج خبرات في تنظيم المهرجانات، وقبل كل ذلك، توافر الدعم والتوجيه المستمرين من قبل القيادة السياسية التي وضعت الإمكانات اللازمة في مختلف القطاعات الحكومية رهن إشارة القائمين على تنظيم هذا المهرجان السنوي، ولتتسابق جميع القطاعات الحكومية والأهلية والمجتمعية على المشاركة في نشاطاته وفعالياته بحماسة على إنجاحه.
لم يعد مهرجان الجنادرية مهرجاناً للمهن التراثية والصناعات اليدوية وسباقات الهجن والفروسية، والفرق الشعبية، والأعمال المسرحية، والأمسيات الشعرية، والأوبريتات الغنائية، والفعاليات الثقافية التقليدية فحسب، بل أصبح يواكب الحراك الاجتماعي والسياسي للمجتمع السعودي والمتغيرات حوله، ويتيح منبراً فكرياً لطرح القضايا الفكرية والسياسية المثارة في الساحة، ويتصدى لمناقشتها عبر فضاء مفتوح لكافة التوجهات السياسية والمذهبية. ومن هنا يحرص القائمون عليه، على دعوة المفكرين والمثقفين بكافة توجهاتهم الفكرية والسياسية والمذهبية، بهدف إثراء الحوار، وتعزيز ثقافة التسامح وقبول الآخر، وترسيخه وتحقيق التلاحم الفكري المثمر، ولعل هذا التوجه المنفتح على الآخر السياسي والمذهبي هو ما يثير حفيظة أصحاب الاتجاه الفكري الواحد، فيحاولون الانتقاص من المهرجان وقيمته الفكرية والثقافية، كما يسعون عبر المقالات والمواقع الإلكترونية إلى تشويه إنجازاته والتشكيك بفعالياته وبرامجه. يقول الكاتب السعودي عبدالرحمن الوايلي في مقالته: لماذا يكرهون الجنادرية؟! "الجنادرية تقوم بدور (القلعة) والحصن المنيع، للحفاظ على الذاكرة الوجدانية المجتمعية للسعودية وصيانتها، وحمايتها من عبث ونزق أيديولوجيا التسييس، وهؤلاء الذين يقفون ضد الفعاليات المدنية وعلى رأسها الجنادرية، هم نتاج مواقف أيديولوجية أو سيكولوجية مسيسة لا حمية دينية أو احتسابية". لقد عشت أياماً وليالي حافلة وهنية في رحاب فعاليات الجنادرية وأجوائها، سواء في أروقة وقاعات الفندق الذي احتضن الندوات الثقافية والأمسيات الفنية والشعرية، أو في "لوبي" الفندق الذي جمعني بالعشرات من المثقفين مختلفي المشارب في حوارات فكرية ممتدة إلى ما بعد منتصف الليل، أو في الزيارات التي قمنا بها لقرية الجنادرية التي تبعد 80 كم عن الرياض. لن أتحدث عن الندوات الثقافية، فقد تكلمت عنها في مقالات سابقة، لكني سعدت بحضور العنصر النسائي ومشاركته الفعالة في هذه الندوات، والتي لاقت استحساناً كبيراً من الحضور، إنه تطور اجتماعي مذهل، لكنه متدرج وحكيم ومتوازن ومحكوم بضوابط شرعية وأعراف مجتمعية. سأتحدث عن مشاهداتي في القرية التراثية (الجنادرية) وكم سعدت بها، استمتعت بمشاهدة مهن وطرق يدوية قديمة ما زالت مستمرة منها: صناعة تقطير الورود واستخراج دهن العود والحفر على الخشب والتطريز وحياكة السدو والعقال والمشالح والصوف، وصناعة الأسل والخوص (الحصر، السفرة، المهفة، المخرفة) والأقفاص والسبح والفخار والسفن ومهنة الطواشة، ورأيت الصفار والحداد والخراز والسمكري وكيف يعملون، هناك أكثر من 300 مهنة وصناعة يدوية قديمة ضمن الفعاليات. عشت لحظات سعيدة في "المزرعة القديمة" وهي مزرعة متكاملة تعرف الزوار بنمط معيشة الفلاح والمزارع قديماً، بدءاً بكيف يبني بيته من الطين والحجارة، وكيف يستخرج الجص ويحرق ويدق ويحرث الأرض ويبذرها ثم عملية السقي وفصل الحبوب عن السنابل "بالدياسة" أي مجموعة من الحمير أو الأبقار تدور وتدوس على المحصول لفصله وهرسه. وقفت ومعي كثير من الزوار مستمتعين، بمشهد رفع المياه من الآبار عن طريق الإبل، تشد الحبال والدلاء (القرب الجلدية) على السواني (عجلات خشبية) تدور وتصدر صوتاً رتيباً يذكرك بزمن البساطة والنقاء فيشدك الحنين إلى الماضي الجميل. قصدت الجناح القطري الذي احتل موقعاً متميزاً في السوق الشعبي وجلست مع الإخوة المشرفين، وأمامنا طاولة كبيرة وضعت عليها المطبوعات القطرية، وجدت إقبالاً كبيراً من الإخوة السعوديين للحصول عليها، وكلهم يبدون إعجابهم بقطر ودورها، يحملون صورة جميلة عن قطر، أسعدني ذلك وشعرت بفخر كبير عندما قدمت الفرقة الشعبية القطرية، العرضة القطرية، اهتزت الأرض طرباً وجاء خلق كثير يشارك ويغني، وامتلأ الفضاء بالأهازيج الحماسية. وجدت ترحيباً كبيراً أينما حللت وعرفوا أني قطري، دخلت جناح الجمعية السعودية للمتقاعدين، وجدت الشباب شعلة حماس في خدمة المتقاعدين، طلبت نسخة من مجلة الجمعية (المتقاعدون) وما إن عرف مدير العلاقات العامة محمد الطفيلي الزهراني، بأني جئت من قطر حتى هب مرحباً وأصر على أن أسجل كلمة في سجل التشريفات، وحرص على التقاط صور معي. زرت أجنحة دول مجلس التعاون وأعجبتني أنشطتها، وتذوقت الحلوى العمانية، لكن أكثر ما أعجبني، جناح المؤسسة العامة للتدريب التقني الذي يقدم دورات تدريبية قصيرة (ساعتين) في مجالات: التطوير الرقمي، القراءة السريعة، الخريطة الذهنية، التمديدات والحماية الكهربائية، صيانة الجوال والسيارات، وهناك دروس تقدم للزائرات: فن العناية بالشعر والتسريح والتجميل والمكياج، وفن تغليف الشوكولاتة والتصميم وإنتاج الملابس وهناك ركن الموهوبين واختراعاتهم. كما يقوم خبراء مهنيون بتقديم شروح للزوار في التوعية المهنية والتقنية: في صيانة الحاسب، والسلامة المنزلية من أخطار الكهرباء، والتبريد والتكييف، وأمن المعلومات، والنجارة، والتغذية وغيرها، وهو نمط من النشاط. ويستقطب المهرجان أعداداً هائلة من الزوار، أراه شديد الأهمية والفائدة وأتمنى تعميمه والاقتداء به في كل المهرجانات والفعاليات التراثية والشعبية الخليجية لدول مجلس التعاون. لاحظت أن كافة المناطق السعودية ممثلة بموروثاتها الثقافية المتميزة وبمهنها وصناعاتها، كذلك فإن كافة مؤسسات الدولة وجامعاتها وهيئاتها موجودة ومنها: هيئة حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وقد استفدت من كتيباتهما ومطوياتهما التي تقدم للزوار مجاناً، ودول مجلس التعاون وجدت بفنونها وموروثاتها الشعبية، وعرفت أن "اليولة" الإماراتية حظيت باهتمام وتفاعل الزوار. "الجنادرية" قصة نجاح كبيرة، بدأت بفكرة في ذهن خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله، بإقامة مهرجان للحفاظ على التراث الوطني الأصيل، وتطورت لتصبح مهرجاناً وطنياً عاماً يستوعب كافة الموروثات والخصائص المتميزة لكافة مكونات المجتمع السعودي ومناطقه في اجتماع سنوي، وفي مكان واحد يؤلف بينهم وينقل للأجيال الجديدة الموروث الأصيل، ما يزيدهم اعتزازاً وثقة بأنفسهم. ختاماً: لقد تطورت الجنادرية وأصبحت فعالياتها أكثر تنظيماً ووهجاً، وكانت محل ثناء وتقدير ورضا كافة الزوار الذين بلغوا (6) ملايين زائر، فتحية للقائمين عليها متنمياً مزيداً من التطوير والنجاحات... لقد أسدلت الجنادرية ستارها لكن ذكرياتها ووهجها باقيتان.* كاتب قطري