عندما انطفأ قلب الشاعر الأب يوسف سعيد، في فبراير 2012، انطفأ معه ضوء المكان المقدس الذي كان يبارك فيه رعيته، لم يكن الأب يوسف سعيد شاعراً فحسب، بل إن هذه الصفة، لم تكن في ظني، تحتل موقعاً مركزياً في سُلم علاقاته، لقد كان رجل دين بالمعنى العميق للكلمة، أي ذلك الجانب الروحي الذي يضع المحبة والتسامح والانفتاح موقعاً عالياً، واقفاً منه ينظر إلى العالم والأشياء والطبيعة، ورغم كتاباته الكثيرة لم يكن الأب يوسف سعيد موهوماً بالخلود، خصوصاً في العلاقات الشللية الإعلامية السطحية، إذ نادراً ما كان الإعلام ودور النشر المعروفة والصحف العربية تتناول قصائده وكتاباته. كان نسيجاً لوحده، وكان قلبه ينبض بالدعة والرضى، وحياته يشغلها أفق التأمل الصامت، على الأرجح كان الأب يوسف سعيد، يكتب حياته بعفوية خالصة، فقصائده ذات طابع سردي أحياناً، وومضة حكيمة مع نثار من تاريخ قديم، مبثوث هنا وهناك أحياناً أخرى. لذلك تبدو قصائده أشبه بالكلام الخام، نوع من الوعورة الغامضة، في فضاء يتسع لصور شعرية تعوم في اتجاهات عدة. إنه خيار، لكنه خيار سار فيه منذ مجموعته الشعرية الأولى «المجزرة» في عام 1953. كتب الأب يوسف قصائد نثر، وهو إلى جانب كونه أحد جماعة كركوك، حوّل كنيسته في تلك المدينة إلى مختبر حقيقي لقصيدة النثر العراقية، وكان الشاعر الراحل سركون بولص غالباً ما يتحدث عن «أبونا» بنوع من المحبة والاجلال، وفي كتابه «السفر داخل المنافي البعيدة» يعيد الأب يوسف سعيد تشكيل ملامح الإنسان في الحياة بنزعة أسطورية وأبعاد حلمية، وأمثولات صوفية، وقلق وجودي.

Ad

«نسوة قرب سريري يحدثنني عن هلاكي المؤجل».

بينما أراقب كوكباً كبيراً، متمنياً الارتقاء إلى دياره،

هل في أحواضه السماوية زنابق من نوع آخر؟

غادر الأب يوسف سعيد العراق مبكراً، واستقر في بيروت عام حتى 1970، حيث استقبله نخبة من شعراء مجلة شعر البيروتية، ونشر له أودنيس في مجلة مواقف قصائد بعنوان «أضواء آتية من أسواق القمر». وحينما غادر إلى السويد، استقر في ضاحية سودرتالية القريبة من العاصمة استوكهولم، مهتماً برعيته في الكنيسة السريانية متأملاً للطبيعة وكاتباً للشعر حتى رحيله.

امرأة تحوم هناك

على جبينها حروف لتعويذة،

رأيتها تهمس في أذني: والموت شهوة رابحة.

قابلت الأب يوسف سعيد ذات مرة في مدينة مالمو السويدية، بمناسبة قراءات شعرية نظمتها إحدى الجمعيات العربية هناك، قرأ مجموعة من قصائده ثم بعد ذلك طاف بالحضور مع الشعر والذكريات والصداقات، كان دمثاً، مبتسماً على نوع من الدعابة، كان بلباسه الكهنوتي كأنه شاعر قادم من أغوار سحيقة، من كهوف العبادة والتأمل.

الأرض تستقبل حفيفاً من أجنحة النحل

الصاعد أسراباً غفيرة نحو جبال الرب

تختبئ أجنحة بذارها

في تراب أبدي العطاءات

وتطير كفراشات ملونة من زهرة لدالية

تحررت من غربتها الكبرى.