إنه أحد الأيام التي عندما أذكرها وأتذكرها أشعر بوجع كطعنة الخنجر في القلب وهو يشبه ذلك اليوم الذي رأيت فيه أمي حزينة ودامعة، خلتها أنا ابن الثمانية أعوام بحجم الأرض والسماء، تسيل على خدٍّ تطرزه لوحة خضراء من وشم بدوي كانت قد رسمته فنانة فطرية من بلدة الحصن، التي كانت لاتزال في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي قرية أردنية عريقة بيوتها من الطين والحجارة وسمة رجالها الكرم رغم ضعف الحال وشح الإمكانات.

Ad

أخبرتني والدتي ذات يوم وأنا أحدق في لوحة وجهها، الجميل، الخضراء أنها ذهبت مع عدد من فتيات القبيلة في مثل عمرها وبحراسة عمها "إمْفيليح" إلى قرية الحصن، التي تبعد بقياس المسافات في هذا العصر أكثر من ثلاثين ميلاً، وان هذا الجمع الذي كان كضمةٍ من زهر بلادنا أمضى ليلة في منزل "ختيارة" ورثت هذا الفن الإبداعي عن أمها الذي ورثته بدورها عن أمها. وهكذا إلى أن تصل حلقات السلسلة إلى حواء أم البشرية.

كانت والدتي تروي تفاصيل تلك الرحلة وهي تتمنى لو انها تجد دواءً تمحو به هذا الوشم، الذي سَمِعَتْ أن الشيخ "سبيتان" الوافد من جهة غير معروفة إلى هذه المنطقة، التي كانت لاتزال عذراء، أفتى بتحريمه وأن الوجه الذي يحمله سيبقى، يوم القيامة، يتقلب في نار جهنم إلى مالا نهاية!

في صباح ذلك اليوم الذي مازلت عندما أذكره أشعر بحزن شديد يغمرني وبوجع لاسعٍ في أحشائي وصدري قال والدي، الذي أمضى ليلة طويلة لم يغمض له فيها جفن وهو يكابد وطأة حمى الملاريا، لوالدتي: "لم تعد تفيدني حبوب الكينا. أنا ذاهب إلى جرش لرؤية الطبيب. أرسلي لشقيقك (أبو علي) ليأتي من (الحَصب) ويمضي ليلته هنا لأنني أخاف عليكم من هذا الوادي الموحش المعزول ولأنني بالتأكيد لن أستطيع العودة في اليوم ذاته".

قبَّلنا واحداً واحداً بشفتين ناشفتين وأنفاس متقطعة وضم كل واحد منا إلى صدر يرتفع ويهبط، ومضى. تركنا في هذا الوادي الموحش الذي لا يوجد فيه غير بيتنا، الذي هو من الشعر، وبقينا نراقب ذهابه وهو يرتقي المرتفع الموصل إلى الطريق الموصل إلى جرش بحزن ولوعة وكأنه ذاهب بلا عودة ولن نراه مرة أخرى.

مضى نهار نكدٌ طويل وعندما اقترب المساء بدأنا نشعر بقلق أمي ومخاوفها، فهي بعد أن أنهت أعمالها اليومية الشاقة جلست القرفصاء فوق صخرة صوانية كبيرة كانت تبرك أمام بيت الشعر، كهضبة شاردة من جبل "المطوَّق" المجاور، وأسندت ذقنها المخضب بالوشم الأخضر الجميل إلى يدٍ مرتعشة. وبقيت تنظر إلى الشرق باتجاه الطريق القادم من "الحصب" والذي يبدو مع لحظات الغروب الأولى كأفعى كبيرة تنحدر من سفح جبل لا تبدد وحشته إلا شجيرات الشيح والبلان وفي أيام فصل الربيع والغيصلان فقط.

عندما غطى الظلام المنطقة وبدأت أشجار الدفلى والصفصاف وشجيرات القصب وأدغال النعناع والعليق تتحول في وادي خريسان إلى غيلان وأشباح مخيفة أطلقت أمي تنهيدة حزينة ترافقت مع تأوه خافت، وقالت وهي تخاطب نفسها وتخاطبنا بصوت مرتفع: لم يأتِ خالكم (أبو علي) ويبدو أنه لن يأتي ربما أن المرسال لم يؤدِّ الأمانة ولم يبلغه أننا وحدنا وأننا سنواجه ليلة مرعبة في هذه المنطقة القصية، التي تزورها الضباع وهوام الأرض في هذا الخريف الرمادي الأجرد أكثر مما يزورها بنو البشر.

تقدم الليل بسرعة، وارتقت بنا أمي إلى "المُرْوشن" المرتفع عن الأرض أكثر من متر وفردت علينا جناحيها كما تفرد "القبرة" جناحيها على فراخها. وبعد غفوة قصيرة استفقنا مذعورين على زمجرة هائلة شديدة سمعنا أمي وهي تردد: "بسم الله الرحمن الرحيم.. بسم الله الرحمن الرحيم"، ازدادت الزمجرة، ومن شدة الخوف وتحت ضغط الفضول رفعت طرف اللحاف فرأيت تحت ضوء القمر وعلى بعد أمتار قليلة عند "مقْدم" بيت الشعر وحْشان كبيران يقف كل واحد منهما على رجليه الخلفيتين، ويتهاوشان بأصوات مرعبة، بينما البقرتان المربوطتان في ذات المنطقة تضربان الأرض بقدميهما وتصدران خواراً يتردد صداه في الوديان والكهوف المجاورة.

استمر هذا المشهد المرعب إلى أن غلبنا النوم، وعندما عاد أبي في مساء اليوم التالي أبلغته أمي بما جرى وسمعتها تقول وهي تبكي بحرقة: إن الله ستر لقد كان عجَّالاً من الضباع، ولو أن هذه الضباع لم تملأ بطونها بلحم الدابة التي نفقت قبل يومين والتي بقيت جيفتها عند الرمانة "الحلاوية" فلما وجدتنا ولكُنَّا الآن في بطون تلك الوحوش الكاسرة.