ما قل ودل: قانون الميزانية والحساب الختامي أقدم وأرقى وسائل الرقابة البرلمانية ( 4 من 4)

نشر في 13-10-2013
آخر تحديث 13-10-2013 | 00:01
 المستشار شفيق إمام تناولت في الأسابيع الثلاثة الماضية، تحت العنوان ذاته، كيف أغفلت، بل أهدرت، لجنة الخبراء العشرة، التي وضعت التعديلات الدستورية لدستور 2012، المبادئ والأحكام الدستورية التي تحكم الميزانية، وهو ما سردنا أمثلة له في المقالين الأخيرين.

ونعرض لأوجه تقليص الرقابة على المال العام في ما يلي:

وذلك من خلال النصوص الدستورية التي سلبت الرقابة البرلمانية على موازنات الهيئات والمؤسسات العامة والإدارة المحلية والصناديق الخاصة والهيئات القضائية.

1- إفلات ميزانيات الهيئات والمؤسسات العامة

وتحرص الدساتير على النص على سريان الأحكام الخاصة بميزانية الدولة على ميزانيات الهيئات والمؤسسات العامة، ومن هذه الدساتير دستور الكويت، الذي ينص في المادة (148) على أن "يبين القانون الميزانيات العامة، المستقلة والملحقة، وتسري في شأنها الأحكام الخاصة بميزانية الدولة. وكان مشروع دستور 1954 ينص على أن "الميزانيات المستقلة والملحقة وحساباتها الختامية تجري عليها الأحكام المتقدمة الخاصة بميزانية الحكومة وحسابها الختامي".

فالمشرع العادي يملك تحديد الجهات التي تستقل بميزانياتها، أو تكون ميزانياتها ملحقه بميزانية الدولة، ولكنها جميعا تخضع للأحكام الخاصة بميزانية الدولة المبينة في الدستور وهو أمر طبيعي، لأن إنشاء الهيئات والمؤسسات العامة لا يعدو أن يكون أسلوباً من أساليب إدارة المرافق العامة الاقتصادية، لتحريرها من أساليب الإدارة الحكومية بمنحها استقلالاً مالياً وإدارياً، الأمر الذي لا يجوز أن تفلت من رقابة البرلمان التي تتمثل بإقرار ميزانياتها وحساباتها الختامية. إلا أن الجمعية التأسيسية ولجنة الخبراء العشرة قد زاغ بصرها عن الرقابة البرلمانية على الهيئات والمؤسسات العامة، وأهدرتها إهداراً كاملاً بالنسبة إلى الهيئات والمؤسسات العامة، كما أهدرها دستور 1971 بالنص على أن "يحدد القانون أحكام موازنات المؤسسات العامة والهيئات العامة وحساباتها"، ومعنى ذلك أن الرقابة على هذه الموازنات وعلى حساباتها الختامية، لم تعد من حقوق البرلمان الدستورية، التي يمارسها كأقدم وأخطر وسائل الرقابة البرلمانية.

فالحقوق الدستورية لا تنشئها القوانين، بل يمكن أن تنظم استخدامها، فالمُشرع يملك تحديد قواعد إعداد وتحضير وإعداد الموازنات أو تنفيذها، بناء على نصوص دستورية تقرر حق البرلمان في الرقابة على هذه الموازنات وحساباتها الختامية، فإذا غابت مثل هذه النصوص فإن ذلك يتيح للأغلبية البرلمانية التي قد تكون من حزب أو فصيل واحد، تضمين القانون ما تراه من أحكام تفلت فيها موازنة الهيئات والمؤسسات العامة من رقابة البرلمان لتفويت الفرصة على المعارضة في كشف فساد هذه الجهات.

2- إفلات ميزانيات وحدات الإدارة المحلية والصناديق الخاصة

فقد عهدت المادة (191) من دستور 2012 إلى كل مجلس محلي بوضع ميزانيته وحسابه الختامي، وخولت السلطة التنفيذية وحدها حق الاعتراض عليها خلال مدة محددة.

وهو ما رددته المادة (155) من التعديلات الدستورية.

وكانت مسودة دستور 1954 تنص في المادة (143) على أنه "تدخل في موارد الهيئات المحلية، الضرائب والرسوم ذات الطابع المحلي أصلية كانت أو إضافية وذلك كله في الحدود التي يقررها القانون".

فمسودة دستور 1954 لم تخول المجالس المحلية وضع ميزانية لكل وحدة محلية، إنما أدخلت في مواردها بعض الضرائب والرسوم ذات الطابع المحلي. وهو ما يقتضي إعادة النظر في النصوص المتعلقة بموازنات الوحدات المحلية والصناديق الخاصة ليكون للبرلمان دور في الاعتراض على تلك الموازنات التي تضعها المجالس المحلية موازياً لدور السلطة التنفيذية في الاعتراض الذي قررته المادة (190) من دستور 2012 والمادة (145) من التعديلات الدستورية، بدلاً من استنساخ النظام السابق.

3- إفلات موازنات الهيئات القضائية من الرقابة البرلمانية

وهو ما استحدثته لجنة الخبراء في ما نصت عليه المادة (158) من التعديلات الدستورية من أن تقوم كل جهة، أو هيئة قضائية على شؤونها، ويكون لكل منها موازنة مستقلة تدرج في الموازنة العامة للدولة رقماً واحداً...". وكم كنت أتمنى من لجنة الخبراء العشرة، التي شكلت من نخبة من رجال القضاء، أن تضرب المثل للقوى السياسية التي ستشكل وشكلت منها لجنة الخمسين، في أن القضاء ليس فوق الدستور والقانون، وإنه الذي يؤدي رسالته القضائية في علانية، هي أحد الضمانات الأساسية لحسن سير العدالة، والذي يعتبر مداولاته قبل إصدار أحكامه، والتي تتم في كنّ مستور، لا فضل فيه لأحد على الآخر، هي قمة الديمقراطية، كنت أتمنى من هذه النخبة في قمة العشرة، أن تضرب المثل في ألا تجعل الدستور مجالاً لمطالب فئوية، لأن القاضي هو أول من كان في صدر الإسلام يترفع عن طلب الحوائج. وكان هناك قانون بشأن موازنة الهيئات القضائية والجهات المعاونة لها، هو القانون رقم (80) لسنة 1976 الذي قرر لكل الهيئات القضائية موازنة سنوية مستقلة، تتولى الأمانة العامة للمجلس الأعلى للهيئات القضائية تحضير وإعداد مشروعها بمراعاة مقترحات هذه الهيئات، ويعرض وزير العدل مشروع الموازنة بعد إعداده على المجلس الأعلى للهيئات القضائية، ثم يعرضه وفقاً لما ينتهي إليه رأي هذا المجلس على رئيس مجلس الوزراء، لإحالته إلى مجلس الشعب.

وليس في الرقابة البرلمانية على موازنة الهيئات القضائية، والحسابات الختامية لها، وهي أقدم وأرقى وسائل الرقابة البرلمانية، ما يمس استقلال القضاء، بل هو تعميق للمبدأ الديمقراطي في الفصل بين السلطات، وفقاً للمقولة الشهيرة لمونتسكيو بأن السلطة تحد السلطة le pouvoir arête le pouvoir. وسوف نعرض في مقال قادم بإذن الله للمفهوم الحقيقي لاستقلال القضاء.

back to top