لمَ لا تحمل الثروات الحرية للصين؟

نشر في 24-05-2013 | 00:01
آخر تحديث 24-05-2013 | 00:01
No Image Caption
تُعتبر الصين التحدي الأكبر للإيمان الإنكليزي-الأميركي بهذه المسيرة المتواصلة نحو الليبرالية والديمقراطية، فقد حققت نمواً مذهلاً من دون أن تتبنى الديمقراطية الانتخابية، علاوة على ذلك، تتحكم الدولة بالمراكز القيادية لهذا الاقتصاد العالمي ولن يتبدل هذا الوضع قريباً.
 Pankaj Mishra يروي التاريخ المعاصر قصة انتشار الديمقراطية الليبرالية، التي أبصرت النور في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، قد يبدو هذا حلما غريبا، لكن رواية التقدم الحتمية هذه تشكل أساس معظم افتتاحيات الصحف والمقالات والخطابات السياسية في الغرب. كذلك تمثل الإطار العام لوجهات نظر أوسع عن التنمية السياسية في دول العالم الأخرى.

بالإضافة إلى ذلك، تقف هذه الرواية وراء اللهجة المتشائمة في تقرير منظمة "بيت الحرية" الأخير، الذي أكد تراجع الديمقراطية الليبرالية في العالم بأسره. حتى الدول التي تتمتع بعمليات انتخاب منتظمة، مثل الهند، ما زالت بعيدة كل البعد عن تطبيق مفهوم الليبرالية، الذي ينادي بحقوق الإنسان القصوى بغية تحقيق قدرات الإنسان الأكمل.

علينا تجاهل التحامل العقائدي الذي يفترض تعميم الديمقراطية الليبرالية، ولعلنا نتمكن عندئذٍ من رؤية بوضوح جلي التعددية الحقيقية للأشكال السياسية، طريقة ولادتها، ومعناها.

شملت الظروف الاقتصادية والاجتماعية المحددة، التي مكنت الليبرالية والديمقراطية على حد سواء، تشديد "الإصلاح" على المسؤولية الفردية والرأسمالية الفردية، وخصوصا في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.

من الصعب تكرار هذه الظروف في مكان آخر، خصوصا في الدول التي تحاول اللحاق بركب الغرب. أصبحت اليابان أول بلد غير غربي يسعى إلى تبني الحداثة، قوة اقتصادية وعسكرية من دون أن تعلق أهمية كبرى على المخاوف الليبرالية بشأن الحقوق الفردية.

قبل اليابان، كانت ألمانيا مجتمعاً آخر تبنى الموجة الصناعية في مرحلة متأخرة نسبيا، مقارنة بأجزاء أوروبا الغربية الأخرى، وقادته إلى عالم الحداثة دولة مركزية قوية.

لم تتبن ألمانيا واليابان كلتاهما تقاليد الليبرالية الإنكليزية-الأميركية، التي تشجع العمل الفردي، واقتصادات عدم التدخل، والتشكيك الرئيس في قوة الدولة. على العكس، اعتُبرت الحقوق الفردية ثانوية مقارنة بالأولويات الاقتصادية والعسكرية في دول تحاول جاهدة مجاراة العالم العصري.

رغب يابانيون قلائل في انتقاد شعار "fukoku kyohei" (ما يعني "زيادة ثروة البلاد وتقوية الجيش")، فبينما كانت اليابان تتقدم بسرعة في أواخر القرن التاسع نحو الحداثة تحت أنظار المملكة المتحدة وروسيا والولايات المتحدة المريبة.

حتى خلال الظروف السياسية المؤاتية في اليابان خلال عهد تايشو وألمانيا خلال فترة جمهورية فايمار، أراد الليبراليون من الدولة أن تصوغ سياسات الرفاه الاجتماعي وتطبيقها بطريقة تعود بالفائدة الكبرى على الفقراء العاملين. فقد تمرد هؤلاء على عدم المساواة المتأصل في الرأسمالية الحديثة، ووضعوا كل ثقتهم بإدارة الاقتصاد البيروقراطية (ليسبقوا بذلك، نوعا ما، أنصار "الاتفاق الجديد" الليبرالي في الولايات المتحدة).

على نحو مماثل، شدد هنود ليبراليون كثر على مبادرة الدولة في نواحٍ عدة من الحياة العامة، فقد طبق رئيس الوزراء الهندي، جواهر لال نهرو، ديمقراطية تمثيلية، مشددا على أن تكون الموافقة الفردية، التي تتجلى من خلال الانتخابات الدورية، أساس شرعية القوة الكبيرة للدولة الهندية.

لكن ليبراليته تحلت بطابع تواصلي أبوي، فقد حظيت الدولة بصلاحيات تنظيمية واسعة في عالم الاقتصاد، كذلك نص الدستور الهند على أن من الممكن الحد من حرية التعبير إن كان هذا يخدم المصلحة العامة.

لكن المؤسف أن خطاً مباشراً يمتد من هذا الإقرار العملي في مجتمع متنوع إلى وقتنا الحاضر، فيمكن لأي كان في يومنا هذا (من ملا مغمور في قرية صغيرة إلى سياسي فاسد) أن يدعي أنه يهاجم الفنانين والكتاب باسم الخير العام. نتيجة لذلك، لم يسبق أن بدت الديمقراطية الليبرالية في الهند هشة إلى هذا الحد.

تحدي الصين

تُعتبر الصين التحدي الأكبر للإيمان الإنكليزي-الأميركي في هذه المسيرة المتواصلة نحو الليبرالية والديمقراطية.

حققت هذه الدولة نمواً مذهلاً من دون أن تتبنى الديمقراطية الانتخابية. علاوة على ذلك، تتحكم الدولة بالمراكز القيادية لهذا الاقتصاد العالمي، ولن يتبدل هذا الوضع قريباً.

لا شك أن تجربة الصين، التي لحقت بركب التنمية والتطور متأخرة، أساسية في فهم مسارها المميز، فلم يحظَ الليبراليون، الذين طالما شكلوا أقلية بين قادة هذا البلد ومفكريه، بفرصة ليزدهروا في جو مليء بالغزوات الأجنبية والحروب الأهلية، فقد تركز تحدي الصين الأبرز خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين على البقاء وتقوية الذات.

اضطر القادة الصينيون أولاً إلى تأسيس دولة وطنية مركزية  بسرعة فائقة تكون محور الأمن والاستقرار في عالم العلاقات الدولية الشرس، وبخلاف اليابانيين الذين طوروا دولة تقوم على مفهوم العائلة الحقيقي، اضطر القادة الصينيون إلى إصلاح جسم الدولة باستمرار كي يفرضوا على المواطنين الصينيين الطاعة. بعد أن رفض القادة الصينيون (خصوصاً شيانغ كاي شيك وماو تسي تونغ) النظام الإمبراطوري، كان عليهم أن يزرعوا في نفوس الناس حساً بالوطنية والهوية الوطنية من خلال التعليم الجماعي والدعاية.

نتيجة لذلك، سُحقت بعنف كل التحديات الفردية لسلطة الدولة العشوائية، لكن مَن خلفوا ماو أدركوا أخيراً إخفاقات ربط الكثير من المبادرات الاقتصادية بالدولة، ولكن حتى دينغ شياو بينغ لم ينتهك خلال تحريره الاقتصاد الأسس القديمة، مثل حشد موارد الصين لجعلها مستقلة حقاً وآمنة، وإرجاء توسيع الحريات الفردية.

ذكر دينغ: "يشكل التطور الحقيقة الراسخة الوحيدة، فإذا لم نتطور، استضعفتنا الدول الأخرى". وخلال الحديث عن "الحلم الصيني"، بدا القائد الصيني الجديد شي جين بينغ الأسس ذاتها، خصوصاً الوحدة الوطنية والقوة والفخر، على الحاجة إلى إصلاحات ديمقراطية أوسع.

ولعله محق في اعتقاده أن مستمعيه يتقبلون ذلك برحابة صدر. يتوقع محللون كثر انهيار النظام الصيني منذ عقود، وعلقوا آمالهم على المستفيدين الأوائل من النمو الاقتصادي الصيني: الطبقة الوسطى؛ لذلك أدت عملية انتقال السلطة السنة الماضية إلى كلام كثير عن الثورة الوشيكة.

حكام شيوعيون بعيدون

لكن الطبقة الوسطى الصينية تبدو مفككة أكثر من أن تشكل حركة سياسية فاعلة، فكم بالأحرى إشعال ثورة؟ أما الصينيون الكثيرون الذين لم يستفيدوا من النمو الاقتصادي، فيعتبرون الحكام الشيوعيين البعيدين أكثر التزاماً بخيرهم من الأقلية الثرية، التي تسعى إلى زيادة أموالها.

ما زال الحزب الشيوعي بخطابه عن الرفاه الاجتماعي يحتكر المصادر العقائدية للشرعية السياسية الجماعية في دولة فقيرة، كذلك يعتمد اليوم على حوار أصلي، مثل الكونفوشيوسية الجديدة، في ترويجه لقيم الانضباط، والهرمية، والتناغم.

علاوة على ذلك، لا يزال هذا الحزب قادراً على تحويل الاضطراب السياسي بين مجموعات الطبقة الوسطى إلى قومية. في مطلق الأحوال، ساهم التوافر المتزايد لبعض الحريات الشخصية في الصين، خصوصاً الاستهلاك والسفر، في تنفيس الإلحاح على إحداث تغيير سياسي.

نتيجة لذلك، يبدو الليبراليون الصينيون، الذين يصرون على أهمية الحقوق الفردية، عاجزين ومعزولين تماماً مثل نظرائهم في اليابان في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته.

يرى معلقون كثر يتجاهلون هذه المعاناة في قدرة الصين على الاستمرار والتكيف دليلاً على أنها نموذج بديل: دولة تنموية ترأسها نخبة تكنوقراطية تبدو أقوى من المجتمع وتعطي الأولوية للمجتمع الوطني وليس للفرد.

لكن مؤيدي النموذج الصيني أو الآسيوي يقعون في الخطأ عينه مثل مفكري الديمقراطية الليبرالية: فلا يمكن أيضاً تطبيق "النموذج" الصيني عالمياً، لأنه نتاج تاريخ الصين الخاص ومن المستحيل تكراره.

لكن السؤال الذي ينشأ هنا: هل هذا النموذج مستدام؟ وما تداعيات فشله على الصين والعالم ككل؟

لم يؤد تحديث اليابان وألمانيا المتأخر، رغم نجاحه الكبير، إلى السلام في أوروبا وآسيا. على العكس، تسببت الأزمات الاقتصادية والاضطرابات الاجتماعية المتنامية بمزيد من الاستبداد في الداخل والتوسع القومي العدائي في الخارج.

لا شك أن موقف الصين العنيد في تعاملها مع جيرانها وتشددها المتزايد في التصدي للمنشقين في الداخل لا ينبئان بالخير، وقد تتحول الصين إلى درس تحذيري آخر عن مخاطر الدخول متأخراً إلى العالم العصري، خصوصاً مع تصميم نخبها على اعتبار الديمقراطية الليبرالية رفاهية لا يمكنهم تحمل كلفتها.

back to top