استكمالاً لمقالنا السابق المنشور على هذه الصفحة يوم الأحد 22 سبتمبر، تحت العنوان ذاته فإن اختصاص البرلمان، بإقرار الميزانية العامة للدولة من أخطر اختصاصاته، وهو اختصاص كان نتاج ثورتين، ثورة 1688 في إنكلترا، وثورة 1789 في فرنسا.  وفي كلتا الدولتين، تقرر في بادئ الأمر، حق ممثلي الشعب في اعتماد الضرائب، بمعنى وجوب الإذن من هؤلاء الممثلين بفرض الضريبة. ثم أدرك النواب أن من حقهم الرقابة على كيفية إنفاق حصيلة هذه الضريبة، ثم تدرجوا إلى تأكيد حقهم في مناقشة كل الإيرادات والمصروفات بغير استثناء، إلى أن استقرت الرقابة البرلمانية بقيام هاتين الثورتين ليتقرر وجوب الاعتماد الدوري للإيرادات والنفقات.

Ad

إلا أن ثورة 25 يناير قد زاغ بصرها عن أحكام الموازنة في الدستور الذي وضعه الفصيل السياسي، وأعتقد أن غياب المهنية في هذا الفصيل هي التي جعلته يتبنى التعديلات سيئة السمعة لدستور  1971، التي جرى الاستفتاء عليها في 26 مارس 2007، وليست مبادئ الشريعة الإسلامية الموغلة في الفقه الإسلامي الذي لا يرى تطبيق حد السرقة على من يختلس المال العام (بيت المال) لأنه لا يختلس مال غيره، بل هو شريك في هذا المال، إذ لا أعتقد أن إساءة الظن بهذا الفصيل تصل إلى هذا المدى.

ولكن المهنية لم تكن غائبة عن لجنة الخبراء العشرة التي قد اجتزأت المبادئ الدستورية التي تحكم الرقابة البرلمانية على الميزانية العامة للدولة في نص واحد تجنى على هذه المبادئ، ومنها خمسة أحكام نص عليها دستور دولة الكويت في المادتين (143) و(145) وهي التالية:

1- العمل بالميزانية القديمة إلى حين إقرار الميزانية الجديدة.

2- تجبى الإيرادات وتنفق المصروفات وفقاً للقوانين القائمة عند امتداد العمل بالميزانية القديمة، في نهاية السنة المالية.

3- يمتنع على البرلمان النص في قانون الموازنة على تعديل قانون قائم.

4- لا يجوز للحكومة أو البرلمان استخدام قانون الموازنة، لتفادي إصدار قانون في أمر نص الدستور على صدور قانون فيه.

5- إفلات الصناديق الخاصة وبعض الميزانيات من الرقابة البرلمانية.

العمل بالميزانية القديمة:

وقد خلت المادة (97) من دستور الخبراء العشرة من الحكم الذي ينص على العمل بالموازنة القديمة إلى حين اعتماد الموازنة الجديدة، وهو حكم يواجه حالة عدم اعتماد الموازنة الجديدة قبل بدء السنة المالية، وكان ينص عليه دستور 2012، وجرى النص عليه في كل الدساتير المصرية منذ دستور 1923، كما كان ينص عليه مشروع دستور 1954.

ويمثل هذا الحكم ضمانة جوهرية، حتى لا يكون هناك فراغ دستوري من ناحية، وحتى لا تستغل السلطة التنفيذية هذا الفراغ، فتطبق الموازنة قبل إقرارها من مجلس الشعب فتبدد المال العام في الإنفاق والتبذير، وتفرض ما تراه من أعباء مالية على المواطنين متذرعة في ذلك بعدم إقرار ممثلي الأمة للموازنة. وكانت اللجنة التشريعية في مجلس الشعب عند قيامها بمراجعة تعديل دستور 1971 الذي جرى الاستفتاء عليه في 26 مارس 2007، قد استحدثت حكما خطيراً يهدر كل الضمانات السابقة، بنقل سلطة إقرار الموازنة إلى رئيس الجمهورية، إذا استمر العمل بالميزانية القديمة ستين يوما، ولم يقر البرلمان الموازنة الجديدة خلال هذه المدة.

العمل بالقوانين القائمة:

وهو الحكم الثاني، الذي قررته المادة (145) من دستور الكويت في ما نصت عليه من أن: "تجبى الإيرادات وتنفق المصروفات وفقاً للقوانين المعمول بها في نهاية السنة المالية، طيلة الفترة التي يعمل فيها بالميزانية القديمة".ذلك أن اختصاص البرلمان بإقرار الميزانية العامة للدولة يعتبر من أخطر اختصاصاته، كما يعتبر إقرار البرلمان للميزانية أمضى سلاح يمكن أن يشهره البرلمان في وجه الحكومة، لإكراهها على قبول وجهة نظره، لأن البرلمان إذا رفض إقرار الموازنة، فإنه ليس أمام الحكومة إلا الاستقالة.

بل يصل الأمر إلى إجبارها على الموافقة على قوانين، في الساعات الأخيرة من دور الانعقاد.

(انظر مقالنا على هذه الصفحة في عدد "الجريدة" الصادر في 29 مايو 2011). ولهذا يعتبر خضوع تحصيل الإيرادات وإنفاق المصروفات للقوانين القائمة عند انتهاء السنة المالية السابقة، طيلة مدة العمل بالميزانية القديمة ضمانة هامة وجوهرية لحث البرلمان على إقرار الميزانية الجديدة.

وللحديث بقية، إن كان في العمر بقية.