مصر بعد مرسي

نشر في 29-07-2013
آخر تحديث 29-07-2013 | 00:01
مع تسبب الحرب الأهلية في سورية في زعزعة الاستقرار في لبنان، والتهديد بنفس الشيء في الأردن أيضاً، وابتلاء العراق بعنف طائفي مماثل، يبدو أن الانقلاب العسكري في مصر ينذر بإنهاء الثورات العربية، على الأقل في الوقت الحالي، ففي كل مكان تشير العلامات إلى الوراء.
 بروجيكت سنديكيت تقع مصر في قلب الثورة العربية، حتى لو كانت الشرارة الأصلية انطلقت في تونس، ولكن مصر- بموقعها الاستراتيجي؛ وحدودها المستقرة وعدد سكانها الكبير، وتاريخها القديم- كانت القوة الرئيسة في العالم العربي لقرون من الزمان، وحددت حركة التاريخ هناك على نحو لم يتيسر لغيرها قط. وهذا يعني أن تداعيات الإطاحة بالرئيس المصري المنتخب ديمقراطياً محمد مرسي سوف تكون واسعة النطاق.

تُرى هل كان خلع مرسي ثورة مضادة كلاسيكية متخفية في ستار انقلاب عسكري؟ أم أن الانقلاب منع "الإخوان المسلمين" من الاستيلاء الكامل على السلطة، وبالتالي جنب مصر الانهيار الاقتصادية والسقوط الفوضوي إلى هاوية الدكتاتورية الدينية؟ لا ينبغي لأحد أن ينكر أن ما حدث في مصر كان انقلاباً عسكرياً، أو أن قوى من نظام الرئيس السابق حسني مبارك عادت إلى السلطة. ولكن خلافاً لما حدث في عام 2011، عندما احتشد عدد قليل من الليبراليين المؤيدين للغرب وأعداد هائلة من الشباب من أبناء الطبقة المتوسطة الحضرية ضد مبارك، فإن نفس المجموعات الآن تؤيد الانقلاب، الأمر الذي يضفي عليه نوعاً من الشرعية (الديمقراطية؟). ومع ذلك فإن الإطاحة بحكومة منتخبة ديمقراطياً بواسطة المؤسسة العسكرية أمر لا يمكن تجميله.

ما الخيارات المتاحة لمصر الآن إذن؟ هل تكرر المأساة الجزائرية، عندما ألغت المؤسسة العسكرية هناك الانتخابات لمنع الإسلاميين من تولي السلطة، مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية دامت ثماني سنوات وحصدت أرواح نحو 200 ألف إنسان؟ هل تعود مصر إلى الدكتاتورية العسكرية؟ أم أن الأمر سوف ينتهي بها إلى نظام أشبه بالديمقراطية "الكمالية" من ذلك النوع الذي ساد لفترة طويلة في تركيا، حيث تتحكم المؤسسة العسكرية في الأمور برغم وجود حكومة مدنية؟ كل البدائل الثلاثة محتملة، ولو أنه من المستحيل أن نتكهن بأي منها قد يتحقق.

ولكن هناك أمر واحد يمكننا نجزم به: وهو أن التوزيع الأساسي للقوة داخل المجتمع المصري لم يتغير، فالقوة مقسمة الآن بين المؤسسة العسكرية و"الإخوان المسلمين". ولا يتمتع الليبراليون من ذوي التوجهات الغربية بأي قوة حقيقية، وهم يقفون كما نرى الآن على أكتاف الجيش. ولا ينبغي لنا أن ننسى أن خصم مرسي في الانتخابات الرئاسية عام 2012، أحمد شفيق الجنرال السابق وآخر رئيس وزراء في عهد مبارك، ليس ليبرالياً بكل تأكيد.

ولن يكون انتصار "الإخوان" أو المؤسسة العسكرية انتصاراً للديمقراطية، ولعل "حماس"، التي تحكم غزة منذ عام 2006، تصلح كمثال لما يريده "الإخوان المسلمون": إنهم يريدون الاستئثار بالسلطة كاملة، بما في ذلك السيطرة على المؤسسة العسكرية. وعلى نحو مماثل، أسفرت هيمنة الجيش المصري على السلطة بداية من خمسينيات القرن العشرين عن دكتاتورية عسكرية استمرت لعقود من الزمان.

ولكن هناك عامل ثالث وجديد الآن في المعادلة، ولا يقيس هذا العامل القوة بنفس الطريقة التي تقيسها بها المؤسسة العسكرية أو "الإخوان". فمن خلال قيادتهم للاحتجاجات طيلة عامين اكتسب شباب الطبقة المتوسطة الحضرية شرعية خاصة، وهم قادرون بفضل قدراتهم التكنولوجية واللغوية على التحكم في المناقشة العالمية بشأن مصر.

إن هؤلاء الشباب يريدون التقدم، وليس السلطة؛ وهم يريدون للمستقبل أن يكون شبيهاً بالحياة التي يرونها على شبكة الإنترنت في الغرب. وإذا تم توجيه هذه الحركة وتوظيفها في السياسة المؤسسية، فإن هذا من شأنه أن يخلف تأثيراً كبيراً على التوزيع الداخلي للقوة في مصر.

وسوف تتحدد أطر الدراما الجارية في مصر الآن ضمن ذلك المثلث من التناقضات والمطالب بين هذه المجموعات الثلاث، ولا ينبغي لنا أن ننسى أيضاً أنه إلى جانب شعور الشباب بأن مستقبلهم كان ضبابياً في ظل الدكتاتورية العسكرية القومية في الماضي فإن الفقر الجماعي كان بمنزلة الشرارة الثانية لثورة 2011.

ولا تشكل مسألة الدين الأساس الوحيد للتناقض بين المؤسسة العسكرية و"الإخوان المسلمين"، فهناك أيضاً كل المشاكل الاجتماعية، بما في ذلك التفاوت بين الناس والذي يشكل لغزاً يحير المجتمعات العربية. والواقع أن "الإخوان" تولوا بالفعل دوراً أشبه بالدور الذي لعبته الأحزاب السياسية اليسارية في أوروبا في القرن التاسع عشر. ومن يرد أن يضعف من تأثير جماعة "الإخوان" فما عليه إلا أن يتعامل مع القضايا الاجتماعية الملحة التي تثيرها وأن يحاول حلها.

وهذا يعني أن الحل الذي سيسود في النهاية أياً كان سوف يقاس وفقاً لقدرته أو عجزه عن حل الأزمة الاقتصادية (خصوصاً نقص فرص العمل للشباب) والفقر الجماعي المتفاقم. ومن الواضح أن فرص النجاح في تحقيق هذه الغاية ضئيلة.

في مختلف أنحاء العالم العربي، تعمل النزعة القومية على التضييق على المجتمعات وتأخير إمكانات التعاون وتفكيك الحواجز الجمركية وإنشاء مجتمع اقتصادي. ورغم هذا فإن اقتصادات الدول العربية التي تمر بأزمة أصغر من أن تنجح اعتماداً على نفسها؛ حتى لو سار كل شيء على ما يرام فلن يكون بوسعها أن تقدم لشرائح سكانية عريضة من الشباب الأمل في مستقبل إيجابي. فهي في احتياج إلى التعاون المعزز، الذي سوف يستند نظراً للغة المشتركة إلى أساس أقوى من الأساس الذي يقوم عليه التعاون في أوروبا.

وفي مصر، يتعين على الغرب أن يعمل مع القوى السياسية الثلاث الرائدة- المؤسسة العسكرية، و"الإخوان"، وشباب المناطق الحضرية- لأن أي حل قصير الأجل لن يأتي في هيئة خيار واحد. والنهج الأسوأ في التعامل مع هذه المسألة هو تهميش أو حتى اضطهاد "الإخوان المسلمين" والإسلام السياسي مرة أخرى.

وعلى نطاق أوسع، فمع تسبب الحرب الأهلية في سورية في زعزعة الاستقرار في لبنان، والتهديد بنفس الشيء في الأردن أيضاً، وابتلاء العراق بعنف طائفي مماثل، يبدو أن الانقلاب العسكري في مصر ينذر بإنهاء الثورات العربية، على الأقل في الوقت الحالي. ففي كل مكان تشير العلامات إلى الوراء.

ولكن ينبغي لنا ألا نخدع أنفسنا، فحتى إذا بدا الصراع على السلطة محسوماً، فإن هذا لا يعني العودة إلى الوضع الراهن السابق. فعندما انحسرت ثورات عام 1848 في أوروبا في العام التالي، كان كل شيء قد اختلف بالفعل، كما نعرف الآن. فقد ظلت الأنظمة الملكية في السلطة لعقود من الزمان، ولكن بات من المستحيل وقف الثورة الصناعية أو منع انتشار الديمقراطية.

غير أننا نعلم أيضاً أن هذا قاد أوروبا إلى مستقبل لم يكن آمنا مطمئناً بأي حال من الأحوال، وقد لا يتأثر العالم العربي إلى هذا الحد العميق، ولكن من المؤكد أن المستقبل القريب هناك لن يكون سلمياً ولا مستقراً.

* يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق ونائب مستشارها في الفترة 1998- 2005، وأحد زعماء حزب الخضر الألماني البارزين لما يقرب من العشرين عاما.

«بروجيكت سنديكيت-معهد العلوم الإنسانية» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top