كازيوَه صالح في «خطيبي الطينيّ»... مرافعات سرديّة عن ضحيّة دائمة اسمها: المرأة

نشر في 12-08-2013 | 00:01
آخر تحديث 12-08-2013 | 00:01
No Image Caption
قلّما تمتشق كاتبة شرقية قلمها دون أن يكون حبره من سائل هو غير دمها. وكأنّ حملة الأقلام من رجال الشرق لم يستطيعوا، وأقصد الأحرار والحضاريّين منهم، أن يخلّصوا المرأة من لعنة الخيمة ويخرجوها من تابوت الرّمل، لتنصرف إلى كتابة ذاتها كإنسان حيّ لا كضحيّة لا تنتهي. كازيوَه صالح في «خطيبي الطينيّ» تقدِّم مرافعات سردية لأجل المرأة.
يضمّ «خطيبي الطينيّ» للأديبة الكورديّة كازيوَه صالح، ترجمة جمعة الجباري، مجموعة أقاصيص قد تكون بمثابة مرافعات سرديّة عن المرأة الشرقيّة التي تهبّ عليها عواصف رمليّة قاتلة من صدور الرجال الشرقيّين ولا تستطيع أن تحظى بمساحة متواضعة لوجودها في رحلتها الشائكة من المهد إلى اللحد، وقد يكون اللحد بكلّ ما فيه من موت أرحم من ميتات كثيرة تمرّ بها وهي على قيد حياة وهميّة.

في قصص «تويتريّة» خاطفة تستوقف القارئ القصّة الرابعة المقتضبة كجرح صغير غير أنّه يتّسع لألم لا يُحدّ. ومختصر القصّة المختصرة أنّ رجلاً ينجب طفلاً من أخت زوجته التي لم يتمكّن من إخراج أولادها منها، والأخت الأمّ تطلب من أختها الاعتناء بالطفل. تنجح صالح في صناعة الصدمة من مستهلّ سردها، الصدمة التي هي بمثابة يد تدقّ نواقيس الخطر تحت سماء الشرق القاسية، حيث الرجال يعيشون بلا آذان، وبعيون تعوّدت على مشهد الضحيّة فتنظر إلى سوط الظلم الشرقي مدمنًا تمزيق لحم النساء كأنّه تقليد شرقيّ وجزء حميم من ذاكرة ذكوريّة حرام أن ينال منه مقصّ الحضارة والرقيّ.

وفي «شجرة تفّاح جدّي» تجعل صالح شجرة جدّها التي أورثها إيّاها، على رغم احتجاج أولاده، رمزًا لإرث يجتاز المادّي ليكون إرثًا حضاريًّا ذا بعد قوميّ ووطنيّ واجتماعيّ. وتثبت أن للمرأة أن ترث ما لا يرثه الرّجل، ولها أن تصون أمانة وتمنحها عمرًا طويلاً في مجتمع يجرّدها بتهمة الجسد من كلّ قيمة ويرى النساء مقتنيات من الأفضل أن تُحفَظ في صناديق أمانات الرجال. وتصل علاقة صالح مع شجرة التفّاح إلى أن تصير وإيّاها كيانًا وجوديًّا واحدًا: «إنّ شعر شجرة التفّاح وشعري يؤولان عامًا بعد عام، للتساقط والبهت. طقطقة ظَهْرَينا تشبه حركة سنجاب جائع في أحفور شجرة هرمة تعبة بعد فصل تساقط الزهور.

حديقة الحب

تأتي أقصوصة «خطيبي الطيني أو الغرفة رقم 508» لتفتح الباب المحرّم، لأنّه يفضي إلى حديقة الحبّ حيث الحياة يصنعها رجل وامرأة. تسعى صالح من خلال هذا النصّ إلى الاستقالة من جلباب أمّها: «قرّرت أن أمشي برجلي ولا ألبس بعد الآن جلباب أمّي». وتصوّر الحبّ فنًّا من فنون الاختباء وليس له ظلّ سوى الخوف. الخوف والحبّ يعبران إلى الحياة بخطوة واحدة: «أربعة عشر عامًا من اختباء الروح، والآن تسعة أشهر من اختباء الجسد. يبدو أنّ الحبّ عبارة عن فنّ «الاختباء».

وتبكي صالح، الراوي دموعَها كريستالاً يحلو بعين أجهزة الأمن فتعتقل هي وحبيبها بتهمة السطو على ثروة وطنية وهي الدموع التي أمست تنزل ماءً حزينًا في غرف رجال الأمن ولم تعد جواهر نادرة، وبتهمة تخريب السلام العالمي أيضًا والثورة: «أكنت تريد أن تخرب السلام العالمي وتخلق ثورة؟»...

أمّا في «تعال لنرقص معًا» فتعالج صالح إشكاليّة الرجل الشرقي الذي يدّعي أنّه الرجل الشرقي الجديد، النافض عنه غبار التاريخ، الآتي إلى المرأة الشرقيّة ليبشّرها بولادة رجل مدهش فيه. رجل يريد امرأة في قلب لا في قفص. يريدها بجناحين حرّين: جناح الروح، وجناح الجسد... بينما هو في الواقع يتمزّق بين صورتين للرّجل: صورة «مُبَرْوَزة» برمل الصحراء، وأخرى آخذة جمالها من قوّة الحياة المحكومة بسنّة التطوّر، إلاّ أنّ الصورة الرمليّة هي التي تنتصر عليه وتأسره فيها ثلاثين سنة قابلة للتجديد. فـ{آزاد» الشاب الشرقي يسهر و{مينا» ليلة فلانتاين. غير أنّه لم يراقصها وكان جواب مينا: «حين تعالج عقدك، حينها اتصل بي». وبعد ثلاثة عقود في المهجر تتواصل مينا مع آزاد عبر الانترنت من دون أن تكشف عن اسمها، ويلتقيان ويرقصان، ويفترقان حين يكرّر آزاد نفسه معيدًا كلمات مينا القديمة وكأنّها من صنع وجدانه: «الطبيعة الإنسانيّة كامنة تحت الروح، ولا أستطيع أنا أن أغيّرها، وبتغييرها تخرج الروح».

قلب موجوع

تعرف صالح كيف تتبنّى قضيّة المرأة الشرقيّة في كل أقاصيصها من دون أن تقع في فخّ التكرار. فلجأت إلى التنويع ضمن الوحدة. وصوّرت المرأة في أكثر من وضع حين أنّ الواقع واحد. ففي «يشعل بخور الخلود» مدّت صالح على بساط سردها حكاية المرأة التي استشهد زوجها وطفلها لا يزال جنينًا تحت قلبها الموجوع.

وفي رحلة الطفل من الجنين إلى الشابّ قال الحرمان كلمته في صدر أمّه. الشاب يترك البيت إلى عمله مع الغربيين، وأمّه تترك البيت أيضًا من دون أن يعرف. وبدأ الشك يصادر وجدان الشاب ولو أنّ أمّه ذات وجه أيقونيّ يبقى دائمًا فوق الشبهات. فراقبها، ومشى وراءها إلى حيث ذهبَت. ومن خلال «يشعل بخور الخلود» لم تشأ صالح أن تقول أكثر من أنّ المرأة إنسان لا يجوز أن تحمل جسدها خطيئة على كتفها، وأنّها ذات حقّ بأن تقيم في ذاتها، وأنّ وَأد أحلامها ورغباتها حرام، وإذا استشهد زوجها لا يعني أنّ صورته يجب أن تضمّ وجهَي شهيدين: هو وهي...

ويبدو أنّ نصّ «الفتاة الحرّة» يقول صالح بكلّ ما فيها من نزق يدعوها إلى اعتناق قضيّة المرأة الشرقية، لكن من المؤسف والمفجع في آن أن تعترض الضحيّة على من يصرّ على بعثها حيّة، فكثير من النساء الشرقيات يرفضن كأس الحياة الممزوجة بالفرح وهي آتية إليهنّ ويتواطأن مع السفّاح على أنفسهنّ من حيث يدرين أو لا يدرين: «في يوم المرأة اتهمتها مجموعة من النساء بأنها امرأة غير تقليدية، ووجّهن إليها تهمة كسر التقاليد، على أساس أن المساواة التي تطالب بها كثيرة عليهنّ».

ومن التهم الموجّهة إليها أيضًا: «أنّ التقدّم الذي تنشده مأخوذ من الدول الغربيّة الكافرة»...

وتصل صالح إلى نهاية نصّها بإعلان يلبّي حقيقتها ويقدّمها لقارئها وللرأي العام صاحبة همّ وجودي لن تتنازل عنه استجابة لأي كرة نار تُرمى بين يديها: «نعم أنا بشر. بشر محمّل بكلّ آهات الشرق... أنا بشر امتلأت آفاقي بتقيّؤات أشخاص متّهمين منذ الأزل بتاريخ البشريّة».

back to top