بنت بحري زينات صدقي (23) : ما ليش حد

نشر في 01-08-2013 | 00:02
آخر تحديث 01-08-2013 | 00:02
انتهزت زينات صدقي فرصة رفضها لعدد من الأفلام السينمائية، وقررت العودة إلى المسرح، وما إن طلبها نجيب الريحاني للمشاركة معه في عمل مسرحي جديد، حتى هرولت إليه، فقد كان قد بدأ بتقديم مسرحية «سلاح اليوم» التي كتبها كالعادة بالمشاركة مع بديع خيري، غير أنها هذه المرة تضمنت هجوماً لاذعاً على قيم المجتمع المادية، فجاءت جادة خالية إلى حد ما من الكوميديا، ولكنها تتضمن موضوعاً مهماً حول الفساد المتفشي في المجتمع.
لم تنجح مسرحية نجيب الريحاني «سلاح اليوم» لأن الجمهور لم يتذوقها، باستثناء قلة صغيرة، من أمثال الدكتور طه حسين، هي التي أدركت مضمونها وأوفتها حقها من التقدير، فاضطر الريحاني إلى إعادة تقديم «ريبورتوار» من الأعمال القديمة التي أحبها الجمهور، والتي وجدت زينات نفسها تحبها وتميل إليها أكثر من أي أعمال أخرى.

اكتشفت زينات أنها تميل كل الميل إلى الكوميديا، ليس من خلال أعمالها الفنية فقط، بل حتى على المستوى الإنساني، وهو ما يفسر ضيقها من عدد من الأفلام التي قدمتها خلال الفترة الأخيرة والتي ابتعدت عن الكوميديا وناقشت عدداً من القضايا الاجتماعية التراجيدية، فاتخذت قراراً بالابتعاد عن كل ما هو بعيد عن الكوميديا، وإن لم يشجعها على ذلك سليمان بك نجيب، المعلم والمستشار والصديق:

= شوفي يا زينات دا كلام مش مظبوط. طبعاً من حقك تحبي الكوميديا... وكمان تفضليها على أي حاجة تانية. لكن انت فنانة. لازم تقدم كل الألوان.

* بس أنا ما بحبش النكد يا سليمان بيه. دا بيأثر عليّ أوي.

= مش لوحدك. كلنا كدا... بس لازم تدربي نفسك أنك تفصلي نفسك عن أي شخصية بتقديمها. أو أي حكاية بتعيشيها في الدراما.

على رغم عدم حب زينات للأعمال التراجيدية، فإنها اقتنعت تماماً بالدرس الذي لقنه إياها سليمان نجيب، لكن القدر سرعان ما استجاب لها وأرسل إليها فيلماً كوميدياً بعنوان «الستات عفاريت» وهو فانتازيا كوميدية كتب لها القصة والسيناريو والحوار أبو السعود الإبياري، وأخرجه حسن الإمام.

تدور أحداث الفيلم في إطار كوميدي خفيف حول زوجين تتبدل حياتهما من الهناء إلى العراك اليومي والنزاع بشكل دائم بسبب الغيرة والشك، وإذا بالزوجة يقع لها حادث وهي بصحبة خادمها، تصعد روحاهما فوراً ثم يعودان إلى الأرض في هيئة أشباح، تطارد الزوجة زوجها عندما يقرر الزواج من صديقتها، كما يغضب الخادم عندما يجد خطيبته الخادمة تقرر الزواج من صديقه، ويحول الشبحان حياة الأسرة إلى جحيم، وعندما يصل الصراع إلى ذروته، يفيق الزوج من نومه ويتضح أنه كان يحلم.

شارك زينات صدقي بطولة الفيلم زوزو حمدي الحكيم، محمود المليجي، ليلى فوزي، إسماعيل ياسين، ثريا حلمي، عزيز عثمان.

خوف من الأيام

توفي زوج زينات السابق الموسيقي إبراهيم فوزي، فترك بعض الحزن على نفسها، ليس لأنها ارتبطت به يوماً، بل ما أحزنها وسبب لها رعب فكرة الوحدة، أن يعيش الإنسان وحيداً بلا زوج أو أولاد أو أسرة تستره في أيامه الأخيرة، ما جعل أسئلة عدة تدور في رأسها، حول الحياة والموت والزواج والأولاد والوحدة، فهي ترفض فكرة الزواج مجدداً لمجرد الزواج، لكن ليس لديها مانع من أن تخوض التجربة إذا حدث تفاهم مع إنسان يمكن أن يحبها وتحبه، لكن ماذا لو لم يحدث؟ فهي تعيش الآن مع والدتها وابنة شقيقتها، لكن ماذا لو استمرت من دون زواج، فكيف يمكن أن يكون مصيرها بعد وفاة والدتها، وزواج ابنة شقيقتها؟

كانت نادرة ابنة شقيقتها قد بلغت مرحلة الشباب، فحرصت على أن تطمئن منها على أن تبقى إلى جوارها طوال العمر:

* يعني ما فيش حاجة كدا ولا كدا.

= أنا مش فهماكي يا ماما زوزو النهاردة انت تقصدي إيه؟

* يعني قصدي أسألك اخبار قلبك النونو إيه؟

= قلبي كويس والحمد لله.

* يا بت بطلي لف ودوران... أنا قصدي اسألك قلبك ما بيدقش لشاب أو صديق هنا ولا هنا.

= إيه يا ماما الكلام دا... أنا بتكسف.

* سيبك من الكسوف وصارحيني بجد.

= والله أبداً ما فيش حاجة.

* عايزين نتفق أنك ما تسبينيش طول حياتك.

= أسيبك وأروح فين بس انت يا قمر.

* أنا بتكلم بجد يا بنت علي اللبان.

= غريبة... أول مرة تقوللي يا بنت علي اللبان.

* مش دي الحقيقة. بفكرك بيها علشان ما تجيش يوم تقوللي أرجع لأبويا ولا أمي إسكندرية... هتفضلي معايا هنا لحد ما أموت.

= بعد الشر عليك يا ماما.

* لا شر ولا حر. أنا بنبهك. حتى لما ييجي ابن الحلال... هتتجوزي وتعيشي معايا هنا أهي الشقة كبيرة وواسعة.    

بعدما أطمأنت زينات على حياتها الخاصة عادت لاستئناف عملها، حيث أشعرها هاجس الموت والعجز بخوف من الغد، فقررت أن تقبل كل ما يعرض عليها من أعمال في حدود إمكاناتها ووقتها، الأمر الذي جعلها تعود إلى أفلام التراجيديا والحركة التي كانت قد اتخذت قراراً بالامتناع عنها، فقبلت فيلم «شبح نص الليل» مع المخرج عبد الفتاح حسن، قصة وسيناريو محمد كامل حسن المحامي وحواره، في أبريل 1947، وشارك معها في بطولة الفيلم حسن عبد الوهاب، ومحمد عطية، وسراج منير، وروحية خالد، وعبد العزيز أحمد، وصوفي ديمتري.   

دارت أحداث الفيلم حول ضابط المباحث الشاب الذي يتقدم لابنة عمه الثري، غير أن عمه يرفضه، ثم نكتشف أن الحالة المادية لهذا الثري تسوء، وأن الرجل قرر أن يزوج ابنته لرجل ثري حتى ولو كان يكبرها بسنوات ليست بقليلة لإنقاذ العائلة من الإفلاس. يطوي ابن العم حبه على قلبه، وتستسلم الابنة لمصير اختاره أبوها المفلس. فعلاً، تتزوج من الثري العجوز، إلا أن ابنه لا يرضى عن الزيجة ويضمر حقداً لأبيه وزوجته معاً. يحدث أن يصيب الزوج العجوز المرض ويصبح لصيقًا بالفراش، فيستغل الابن الفرصة ليضرب عصفورين بحجر. يتنكر في ملابس شبح ويتسلل إلى حجرة والده ثم يحمله ليلقي به من النافذة فيموت. يحقق ابن عم الزوجة في مقتل الزوج، فتُتهم في مقتله بدافع الاستفادة من أمواله. يتكرر ظهور الشبح ويعمل على كشف سره لابن العم ويقبض على الابن القاتل. يعود الحب بين ضابط المباحث وابنة عمه بعدما زالت كل العقبات من طريقهما.

ما إن تقاضت زينات أجرها عن فيلم «شبح نص الليل» حتى اشترت سيارة جديدة تصميم 1947، بعدما ظلت ما يقرب من عامين تتعلم قيادة السيارات، ليس لصعوبة التعلم أو أن ثمة مشكلة خاصة بها، ولكن لخوفها الشديد من أن ترتكب حادثاً وتتسبب في مقتل أو إصابة إنسان.

حرصت أن يكون أول من يركب السيارة والدتها، فأخذتها في رحلة مع نادرة وعثمان السفرجي إلى «حديقة الحيوان».

كارثة

في 29 نوفمبر 1947، وافقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية وأخرى عربية فلسطينية وتدويل منطقة القدس ـ جعلها منطقة دولية لا تنتمي إلى دولة معينة ووضعها تحت حكم دولي ـ وقد شمل القرار الحدود بين الدولتين الموعودتين وحدد مراحل في تطبيقه وتوصيات لتسويات اقتصادية بين الدولتين.

رحب الصهاينة بمشروع التقسيم، بينما شعر العرب والفلسطينيون بالإجحاف، فتصاعدت حدّة القتال بعد قرار التقسيم، في بداية عام 1948، في الوقت الذي بدأت فيه «منظمتا الأرجون وشتيرن» استخدام السيارات المفخخة، وتفجير مركز الحكومة في يافا ما أسفر عن مقتل 26 مدنياً فلسطينياً.

في منتصف ليلة السبت ‏15‏ مايو ‏1948 ميلادية، الموافق السادس من مايو عام ‏5758‏ (من التقويم العبري)‏، غادر المندوب السامي البريطاني ميناء حيفا معلناً نهاية انتداب بلاده على فلسطين (‏بعد ‏26‏ عاماً).‏ عندئذ أعلن بن جوريون قيام دولة تدعى «إسرائيل» بحكومة موقتة وسكانها لا يتعدون ‏650‏ ألف يهودي‏، فتحركت جيوش خمس دول عربية‏ (‏مصر، الأردن، العراق‏، سورية‏، لبنان‏)‏ تمثل نحو ‏40‏ مليون نسمة، عدد سكانها، لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

قررت القيادة السياسية المصرية ممثلة في الملك فاروق ورئيس الوزراء النقراشي باشا، دخول الحرب قبل نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين بأسبوعين فقط، وأقر البرلمان المصري دخول الحرب قبلها بيومين، ونظراً إلى ضيق الوقت والقصور الشديد في السلاح والعتاد الحربي اللازم لدخول الجيش الحرب، تم تشكيل لجنة سميت لجنة احتياجات الجيش كانت لها صلاحيات واسعة من دون قيود أو رقابة لإحضار السلاح من كل المصادر و بأسرع وقت ممكن.

وكان مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قد أصدر قراراً بحظر بيع الأسلحة للدول المتحاربة في حرب فلسطين، وهو قرار كان يقصد منه الدول العربية تحديداً، لذلك اضطرت الحكومة المصرية إلى التحايل على القرار بإجراء صفقات الأسلحة مع شركات السلاح تحت غطاء أسماء وسطاء وسماسرة مصريين وأجانب، ما فتح الباب على مصراعيه للتلاعب وتحقيق مكاسب ضخمة وعمولات غير مشروعة.

ما كادت القوات العربية تقترب من حدود فلسطين حتى صدرت قرارات الدول الكبرى ‏(‏الولايات المتحدة‏ الأميركية،‏ الاتحاد السوفياتي، إنكلترا، وغيرها من دول أوروبية‏)‏ بالاعتراف بإسرائيل كدولة مستقلة‏. كذلك صدر مع قرارات الإدانة الدولية التهديد بالعقوبات على الجيوش العربية‏،‏ بينما لم تعترض أية قوة دولية عندما شرعت قوات الهاجاناه ومنظمتا «الأرجون والشتيرن» الإرهابيتين في ضرب المدن والقرى الفلسطينية الواحدة تلو الأخرى في الأسابيع السابقة للسبت الحزين‏ (15‏ مايو ‏1948).

حرص عدد من الفنانين على المشاركة بفاعلية في مساندة الجيش المصري في فلسطين، سواء عن طريق جمع تبرعات أو تقديم حفلات ترفيهية للجنود المصريين عبر الإذاعة المصرية، مثلما فعلت أم كلثوم وغيرها من مطربات، في الوقت الذي بحث فيه زينات صدقي بالمشاركة مع عدد كبير من الفنانين، عن عمل يقدمونه للمشاركة في الحدث الكبير، فاستقر الرأي على تقديم عمل مسرحي ضخم بعنوان «شهداء الوطنية» إخراج إبراهيم جلال، يتناول موضوع قتل الجنود المصريين على الجبهة الفلسطينية من دون حرب، وبمجرد استخدام الأسلحة التي معهم، وهو ما عرف في ما بعد بصفقة «الأسلحة الفاسدة».

اختيار أساسي

فيما كانت رحى الحرب دائرة، لم تتوقف حركة السينما، خصوصاً في ظل ظهور طبقة جديدة من أثرياء الحرب، شارك كثيرون منهم من الباطن في إنتاج عدد من الأفلام السينمائية، ما أدى إلى انتعاش سينمائي على رغم أجواء الحرب التي كانت تسيطر على البلد، فقدمت زينات في 19 أبريل 1948 فيلم «اللعب بالنار» تأليف عمر جميعي وإخراجه، وبطولة كل من المطربة الشابة شريفة فاضل ومحمود المليجي وزوزو ماضي وفريد شوقي ونعيمة جمال ومحمود شكوكو.

بعده شاركت في فيلم «بنت حظ» تأليف عبد الفتاح حسن وإخراجه، وبطولة كل من محمد فوزي وسامية جمال وعلي الكسار ومحمود شكوكو.

لفتت زينات صدقي نظر الفنان والمطرب الشاب محمد فوزي، لدرجة أنه أثناء تصوير الفيلم، وعندما لا تكون لديه مشاهد يصورها، كان يحرص على أن يقف خلف الكاميرا يشاهد أداءها، وهو في حالة انبهار وإعجاب:

= الله... الله عليكِ يا ست زينات... والله كأنك بتغني.

* على فكرة... أنا كنت زمان بغني.

= طبعاً أنا عارف... وبالإمارة كنت في نفس المدرسة اللي أنا أتخرجت منها... كازينو بديعة.

* فين أيام كازينو بديعة وأيام إسكندرية. يااه... كلام بقاله أكتر من 15 سنة... بس في دماغي كأنه حصل إمبارح.

= شوفي بقى. أنا بحضر لفيلم تاني جديد... هنبدأ تصويره الأسبوع الجاي. انت أساسي في الفيلم دا.

* ربنا يخليك يا محمد. انت عارف أنا بحبك أد إيه. بس مش عارفة ظروف شغلي إيه.

= ظروف وجوابات أنا مليش علاقة... لو مش هتشتغلي معايا... أنا هرفض الفيلم دا... انت اسمك على أفيش الفيلم انت وإسماعيل ياسين مكسب لأي حد.

قبل أن ينتهي تصوير فيلم «بنت حظ» بدأ محمد فوزي تصوير فيلم «حب وجنون» قصة وسيناريو بديع خيري وحواره، وإخراج حلمي رفلة، وإلى جانب فوزي وزينات، شارك في بطولته كل من تحية كاريوكا وإسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وعبد السلام النابلسي.

دارت أحداث الفيلم حول محمد، الشاب الريفي الذي يعشق الغناء والطرب، ويغني في الموالد، غير أن عمه يكره ذلك، فيقرر الشاب السفر إلى القاهرة بحثاً عن فتح باب لموهبته، وفعلاً تفتح له الأبواب في القاهرة، لدرجة أن اسمه يتقدم اسم الراقصة التي سمعته يوماً ما وسخرت منه ومن ملابسه الفقيرة ومن أسلوبه هو وصديقاه، بل وتتصارع عليه فتيات الطبقة الراقية، فتضطر الراقصة إلى الاعتراف له بحبها.

إضافة إلى خوفها من المرض وعدم النظافة، بدأ زينات تخشى أمراً آخر، خصوصاً مع اتساع دائرة نجوميتها وتهافت الفنانين قبل المنتجين لطلبها للعمل معهم، فما إن يصيبها قليل من «البرد» أو الزكام، فترجع ذلك إلى الحسد، وإذا مرضت والدتها تؤكد لها أنه من الحسد، وتطلق «البخور» في البيت، وتبخر نفسها ووالدتها، بل ونادرة ابنة شقيقتها، خوفاً من عين الحسود.

ما إن انتهت من تصوير «حب وجنون» حتى شعرت بضيق وحالة من الاكتئاب، لدرجة أنها كانت ترفض الرد على الهاتف، بل وتتهرب إذا ما قالت لها نادرة إن من على الطرف الآخر منتج.

لاحظ ذلك ممثل يشارك في الأدوار الثانوية يدعى منير الفنجري، عندما وجدها تجلس شاردة الذهن، ليست كعادتها، فأكد لها أن لديه الدواء... يريد أن يسمع موافقتها فحسب، فقالت له: موافقة... أما أشوف هتعمل إيه!

(البقية في الحلقة المقبلة)

هروب إلى الضحك

عندما حاولت زينات الهروب إلى الكوميديا، وجدت أيضاً أمامها الموت والأشباح، فهي كانت تشعر بأن شبح الموت يهددها طوال الوقت. لم تكن تخشى على نفسها من الموت، لكن تخشى على والدتها، تخشى أن يخطف الموت والدتها منها، فلن تستطيع العيش بعدها، أو أن تموت هي فتتألم والدتها لموتها. زاد من مخاوفها «المدفن» الذي اشترته، وشعرت بوجود نذير شؤم، وأنه سيستقبل أياً منهما قريباً.

صدق حدسها... لكن ليس لها أو لوالدتها، لكن لزوجها السابق، الموسيقي إبراهيم فوزي، فبينما كان الجميع مشغولين في البروفة مع نجيب الريحاني على خشبة المسرح، دخل «عم مجانس» حارس المسرح مسرعاً ليقطع البروفة وليخبرهم بسقوط الأستاذ فوزي إبراهيم.

جرى الجميع ليروا ماذا حدث له، إلا زينات، اتجهت إلى أقرب كرسي وألقت بجسدها عليه، وبعد إحضار طبيب أكد لهم أنه فارق الحياة.

وقع الريحاني في حيرة، لم يعرف كيف يتصرف؟ ماذا يفعل؟ فهو لا يعرف له أسرة أو عائلة، ولم يخطر على باله يوما أن يسأله عن أسرته أو البيت الذي يسكن فيه، أو الحي الذي يعيش فيه:

= يا دي المصيبة... نعمل فيه إيه الجدع دا؟ الله يرحمه بقى لا نعرف له أهل ولا بيت... طب والعمل؟ ماهو لازم يتجهز ويتكفن والذي منه.

- أنا بقول يا أستاذ نوديه مستشفى قريب وهم يقوموا باللازم وأهو يخرج من المستشفى على الترب على طول.

= ترب إيه... ألا ما نعرف له بيت هنعرف تربته.

وقفت زينات ودموعها لا تتوقف، فقد كانت مرتبطة بهذا الرجل يوماً ما. وحتى لو لم تكن تعرفه، فهي لا تستطيع أن ترى إنساناً يمكن أن يهان إلى هذه الدرجة، وبعدما كان سهمه في صعود، أصبح في هبوط دائم منذ انفصاله عن زينات.

اقتربت من نجيب الريحاني وأعضاء الفرقة وهم يتداولون أمرهم:

* لو سمحت يا أستاذ نجيب... ما فيش داعي.

= ما فيش داعي لإيه يا زينات؟

* ما فيش داعي نبهدل الراجل.

= ومين قال نبهدله؟

* ماهو انتوا لو وديتوه مستشفى هيتبهدل وبعدين هيدفنوه في مدافن الصدقة.

= أيوا يا زينات ماهو ما حدش فينا يعرف له طريق عيله ولا أهل... هنعمل إيه؟ ونتصرف إزاي؟

* أنا هاتصرف...

= هتعملي إيه؟

* أنا هتكفل بيه وهيندفن في المدفن بتاعي... مش علشان كنت مرتبطة بيه في يوم من الأيام. لا بالعكس حتى لو كان غريب ما عرفوش... كنت برضه هعمل معاه كدا.

فعلاً تم تجهيز إبراهيم فوزي ودفنه في المقبرة الخاصة بزينات صدقي، التي ما إن نظرت إلى باب المقبرة وهو يغلق عليه، حتى أدركت وقتها معنى الجملة التي كتبتها فوق مدفنها «مدفن عابري السبيل».

back to top