الملاذات الضريبية الآمنة... وقصة الـ20 تريليون دولار المفقودة!

نشر في 06-04-2013
آخر تحديث 06-04-2013 | 00:01
No Image Caption
الإصلاحات لن تكون سهلة، والحكومات التي تحاول خفض معدلات ضرائب الشركات ستتهم بالخضوع لابتزاز الرأسماليين، كما أن المراكز المالية وجزر «الأوفشور» والملاذات الضريبية الآمنة من لندن إلى ديلاور، ستقاوم أي محاولة للتشديد على قوانينها.
 إيكونوميست تنجح الحضارة فقط إذا كان الأشخاص الذين يتمتعون بفوائدها على استعداد كذلك لدفع نصيبهم من تلك المكاسب. الشركات والأفراد الذين يتفادون دفع الضريبة ويتجنبون أعباءها لا يتمتعون بشعبية في أحسن الأوقات، وبالتالي ليس مفاجئاً أن الحكومات والأفراد عندما يعمدون في كل مكان إلى تقليص نفقاتهم والتوفير من أجل تسديد الفواتير المستحقة عليهم، تتصاعد الهجمات مجدداً على الملاذات الضريبية الآمنة وعلى أولئك الذين يهربون إليها ويستخدمونها.

وقد تركز الغضب في أوروبا على الشركات الكبيرة، وتعرضت "أمازون" و"ستارباكس" إلى مقاطعة من قبل المستهلكين بسبب استخدامهما خدعاً حسابية بارعة استهدفت تسجيل أرباح لها في ملاذات ضريبية آمنة في الوقت الذي عمدتا فيه إلى خفض فواتير أنشطتها في الدول التي مارستا فيها العمل التجاري. وكان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قد وضع قضية التهرب من الضرائب على جدول أعمال قمة مجموعة الثماني، كما أن الولايات المتحدة استهدفت الأفراد الذين يتهربون من الضرائب وكذلك البنوك التي تساعدهم في هذا العمل، وسبق للكونغرس الأميركي أن أقر قانون "التقيد بضرائب الحسابات الخارجية" FATCA، الذي يجبر الشركات المالية الأجنبية على الإفصاح عن أسماء زبائنها الأميركيين، وبالتالي يصبح أي مبلغ، مهما صغر حجمه، يتم نقله إلى الخارج ينطوي على مسؤولية سياسية، وكان ميت رومني تعرض خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية في السنة الماضية إلى استهجان شديد من جانب الحزب الديمقراطي بسبب احتفاظه بأصول وحسابات وموجودات في "جزر كايمان". تعرض وزير الخزانة الأميركي الحالي جاك ليو، قبيل توليه منصبه، إلى هجوم أيضاً بسبب ما قيل عن وجود حصة له في أحد صناديق "جزر كايمان".

يذكر أن دفع الأثرياء إلى تسديد المبالغ المستحقة عليهم ضريبياً يمثل طموحاً يستحق الثناء، غير أن هذا الهجوم ينطوي على نفاق وعلى سوء توجيه في آن معاً، وقد تكون هذه سياسة ذات أبعاد شعبوية جيدة، غير أن القادة الذين يريدون تحقيق حالة أفضل لبلادهم يتعين عليهم أن يركزوا بدلاً من ذلك على جعل باحتهم الخلفية نظيفة، وعلى إصلاح أنظمة الضرائب في الوطن.

التلاعب في ديلاور

قد يكون التصور بشأن الملاذات الضريبية الآمنة ينطوي على أنها جزر نائية صغيرة تحفها الأشجار من كل جانب، لكن الواقع يؤكد أنه ما من شيء يمكن اعتباره صغيراً في عالم أموال "الأوفشور".

فإذا قمنا بتعريف الملاذ الضريبي الآمن بأنه المكان الذي يجذب أموالاً من غير المقيمين أو من غير المواطنين عبر توفير أنظمة مرنة وميسرة، وفرض معدلات ضريبية تصل إلى الصفر، مع ضمان سرية التعاملات، فإننا سنجد في العالم ما بين 50 إلى 60 ملاذاً ضريبياً آمناً تعمل على شكل مقار رسمية لأكثر من مليوني شركة ومؤسسة وآلاف من البنوك والصناديق وشركات التأمين. حقيقية الأمر، ما من أحد يعلم كمية الأموال التي يتم الاحتفاظ بها هناك: غير أن التقديرات تشير إلى أنها تصل إلى حدود 20 تريليون دولار.

يشار إلى أن هذه الملاذات الضريبية الآمنة ليست كلها في مواقع مشمسة، وفي حقيقة الأمر ليست كلها في مناطق "أوفشور" من الوجهة الفنية البحتة. ومن جانبه، يحب الرئيس أوباما أن يشير إلى مجمع "أوغلاند هاوس"- وهو مبنى في جزر كايمان يحتوي بشكل رسمي على 18 ألف شركة- بوصفه يمثل ذروة النظام الفاسد. غير أن "أوغلاند هاوس" ليس رقعة في ولاية ديلاور التي يبلغ عدد سكانها 917092 نسمة وتضم 945 ألف شركة يتهرب معظمها معظمها ذات كيانات مراوغة وضبابية للتهرب من الضرائب. هذا فضلاً عن ميامي التي هي مركز نشاط مصرفي ضخم لعمليات "الأوفشور" وتوفر للمودعين من الأسواق الناشئة نوعاً من الحماية التي يحتاجون إليها، وبعيداً عن أعين المتطفلين من بني جلدتهم، وهي حماية وخدمات لا توفرها لهم بلدانهم.

المراوغة البريطانية

مدينة لندن التي لها مكانة رائدة في عالم تداول العملات عبر "الأوفشور" في الخمسينيات من القرن الماضي، لا تزال متخصصة في مساعدة غير المقيمين على الالتفاف على القوانين.

فالشركات البريطانية المراوغة والضبابية والشركات الصغيرة، والشركات ذات المسؤولية المحدودة عادة ما تبرز كأحد أشكال الكيانات غير الشرعية في القضايا الجنائية.

فالعاصمة البريطانية لندن ليست أفضل حالاً من "جزر كايمان" عندما يتعلق الأمر بالرقابة على عمليات غسل الأموال، وتعتبر دول أخرى في الاتحاد الأوروبي وجهة عالمية لنوع مختلف من التهرب من الضرائب: حيث تقوم الشركات بتحويل أرباحها التي حصدتها في الدول المختلفة إلى "فروع شكلية" تابعة لها في مناطق منخفضة الضرائب مثل لوكسمبورغ وأيرلندا وهولندا.

المراكز المالية

إذا كانت هناك نوايا حقيقية للإصلاح، فيتعين ألا يتم التركيز على جزر الكاريبي فحسب، بل على المراكز المالية القائمة في العالم الغني  أيضاً. كما ينبغي التمييز بين الأنشطة غير القانونية (غسل الأموال والتهرب الضريبي الصريح) وبين الأنشطة القانونية. ويتمثل السلاح الأفضل من أجل محاربة الأنشطة غير القانونية في الشفافية التي تعمل جاهدة من أجل جمع مزيد من المعلومات وتقاسمها مع الجهات المعنية بشكل أفضل. وبفضل قانون "التقيد بضرائب الحسابات الخارجية" FATCA في الولايات المتحدة، شرعت مراكز "الأوفشور" في تقديم مزيد من المعلومات والبيانات إلى دول عملائهم- بينما تظل أميركا وبشكل مخجل مترددة في مشاطرة المعلومات مع دول أميركا اللاتينية التي يحتفظ مواطنوها بايداعاتهم في ميامي. تلك الأوضاع يجب أن يطرأ عليها تغيير. وفي وسع كل شخص عمل المزيد من أجل محاربة استخدام المساهمين المحتملين والمديرين من أجل إخفاء مصادر الأموال. كما يتعين التيقن من أن المعلومات المتعلقة بـ"المستفيد" الحقيقي بين أصحاب الشركات، قد جرى تجميعها وتحديثها وتوفيرها للمحققين في حال الاشتباه بارتكاب خطأ يستحق العقاب. من المؤكد أن هناك تكلفة لتبني سياسة الانفتاح وتحقيق المزيد من الشفافية، لكن تلك التكاليف ستتضاءل أمام فوائد تسليط الضوء على الجوانب الخفية والغامضة في عالم التمويل.

خفض الضرائب

ستسهم الشفافية أيضاً في المساعدة على الحد من الزيادة المطردة في أشكال التهرب الضريبي- وكما أظهرت تجربة شركة "ستارباكس"، فإن الشركات التي تقوم بتحويل أموالها من أجل خفض ضرائبها تتعرض أيضاً لخطر الإساءة إلى سمعتها.

وعلى أي حال، فإن الضغوط المعنوية ليست كل المسألة، فالمستهلك يشعر بالضجر من الشركات، وكذلك الحكومات التي لا تكون صارمة مع الشركات التي تتهرب من سداد الضرائب المستحقة بأن تحاول بصورة قانونية خفض ضرائبها. وفي نهاية المطاف يتعين إصلاح الأنظمة الضريبية، وعلى الحكومات العمل على كبح قدرات الشركات على استخدام نظم "التسعير الداخلي" (التحويل) كوسيلة تستخدمها الشركات للافلات من الأعباء الضريبية.

ويتعين على الحكومات أيضاً أن تخفض معدلات الضرائب المفروضة على الشركات لأنها تقوم بنقل أعبائها إلى الآخرين، وقد يكون من الأفضل فرض الضرائب على أصحاب رأس المال والعمال أو المستهلكين. علاوة على ذلك فإن ضرائب الشركات لا تشكل الكثير وتكاد لا تتجاوز 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة (وتمثل نحو 8.5 في المئة من حصيلة الضرائب الكلية في أميركا)، و2.7 في المئة من الناتج المحلي البريطاني.

نقطة البداية

إلغاء الضرائب على الشركات بصفة كاملة سيؤدي إلى خلق مشكلات أخرى، إذ إنه سيشجع أصحاب رؤوس الأموال والأثرياء على تحويل ثرواتهم إلى شركات، بيد أن خفض معدلات الضرائب المفروضة على الشركات مع وجود كيانات ضريبية كفؤة ويقظة، سيقدم حلاً ناجعاً وربما سيسهم في زيادة الحصيلة الضريبية. فالولايات المتحدة، التي تخضع شركاتها لأعلى معدلات ضرائب على إيراداتها الدولية بين الدول الثرية، تعاني أيضا تصاعداً في أعداد المتهربين من الضرائب في تلك الأنشطة.

ولا شك أن الإصلاحات لن تكون سهلة، والحكومات التي تحاول خفض معدلات ضرائب الشركات ستتهم بالخضوع إلى ابتزاز الرأسماليين، كما أن المراكز المالية وأماكن شركات أنشطة "الأوفشور" والملاذات الضريبية الآمنة من لندن إلى ديلاور، ستقاوم أي محاولة للتشديد على قوانينها... لكن إذا أراد رجال السياسة حقاً فرض ضرائب على "العشرين تريليون دولار" المفقودة، فيتعين أن تكون تلك القضية هي نقطة البداية.

back to top