يعتبر جمال مفرج أن النصوص المختارة في {قضايا الجمالية... من أصولها القديمة إلى دلالاتها المعاصرة} نصوص مرجعية، تشكل واجهة المكتبة الجمالية وورشة عمل للمشتغل في مجال البحث الجمالي.

Ad

 يضيف مفرج أن هدف المؤلف كمال بومنير من وراء جمع هذه النصوص مزدوجاً: كان الهدف الأول وضع تاريخ للـ{أستيتيكا} أو الجمالية، من خلال نصوصها الأساسية. وفي هذا المجال احتاج المؤلف إلى العودة إلى النصوص الأولى، أي النصوص اليونانية، ثم جاء صاعداً حتى الفترة المعاصرة. وبين الرجوع إلى الوراء وبين العودة سلك دروباً صعبة، وخلال رحلته الشاقة نحو عالمه الجمالي كان يختار نصوصاً ويستبعد أخرى، ويفضل، يطرح، ويستبقي. وخلال ذلك كله يكون الكاتب اكتشف أن كل النصوص جديرة بالاحتفاظ بها، لذلك فإن تلك التي استبعدها لم يستبعدها بسبب ضعف قيمتها، ولكن لاستحالة جمع كل النصوص في عمل واحد.

أما الهدف الثاني، فهو إبراز الـ{إستيتيكا} المعاصرة بفضل العدد الكبير من النصوص التي خصصها لها. ويُعّد الكتاب من هذه الناحية بمثابة مساهمة في إعادة كتابة تاريخ الجمالية المعاصرة، أو هو دعوة إلى المشاركة في التأملات المعاصرة حول حاضر الفنون.

بدوره كمال بومنير، يعتبر كتابه هذا بمثابة محاولة متواضعة لإماطة اللثام عن حقل الجمالية التي أصبحت اليوم أفقاً مفتوحاً على حياتنا اليومية، بهدف الوقوف على معانيها وتبين مقارباتها ونظرياتها التي حاولت فهم أو تفسير العمل الفني من حيث طبيعته وشروطه وأساليبه، والكشف عن عملية التفكير في آلياته ومستتبعاته. وذلك لأن هذا العمل قد لقي اهتماماً كبيراً في الدراسات الفلسفية منذ العصر اليوناني إلى يومنا هذا، وفتح المجال واسعاً لطرح إشكاليات ولظهور معضلات يمكن أن تخولنا معرفة حقيقة الظاهرة الجمالية وكنه عملية الإبداع الفني.

مادة معرفية

اعتمد المؤلف في مقاربة القضايا الجمالية على النصوص الفلسفية باعتبارها مادة معرفية تمكن القارئ من الاتصال المباشر بالفكر الفلسفي الجمالي، وتُلقي الضوء على أهم المقاربات الفلسفية النظرية التي أطرت هذا الفكر، بداية من أفلاطون وصولاً إلى جاك دريدا، مروراً بكبار الفلاسفة الذين كانت لهم باع طويلة وإسهام جدير بالاهتمام في الحقل الجمالي، كأرسطو والفارابي وكانط وهيغل ولوكاش وأدورنو وغيرهم. لقد عالجت نصوص هؤلاء الفلاسفة أهم القضايا التي طرحها الفكر الجمالي مثل طبيعة الجمال، والفن والحقيقة، ومعايير الذوق الجمالي، ودور الفن في المجتمع وغيرها من قضايا ما زالت تُطرح في الحقل الفلسفي المعاصر.

قسّم بومنير كتابه إلى أربعة أقسام: تناول الأول الجمالية في العصر القديم أي في العصور اليونانية مع أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. أما القسم الثاني فكان للجمالية في العصر الوسيط، خصوصاً مع الفلاسفة المسلمين كالفارابي والكندي وابن سينا والغزالي وابن خلدون والأكويني. بينما سلَّط القسم الثالث الضوء على الجمالية في العصر الحديث، مع كانط، بيرك، شيلر، هيغل، شوبنهور ونيتشه. والقسم الرابع والأخير كان عن الجمالية المعاصرة، مع الفلاسفة برغسون، كروشه، سانتيانا، ديوي، فرويد، لوكاش، بنيامين، أدورنو، ماركوز، هايدغر، غادامير، سارتر، ميرلوبونتي، انغاردن، آيزر، إيكو، تودوروف، فيشر، ريد، باشلار، بورديار، ليوتار ودريدا.

يؤكد بومنير أن الفترة اليوناية تعتبر بداية فعلية للفلسفة الجمالية، من حيث هي نمط من التفكير انصب على الظاهرة الفنية قصد إدراك حقيقتها وماهيتها ومعرفة المعايير والقوانين التي تحكمها. ويشير إلى أن الفلاسفة اليونانيين قد بحثوا في القضايا الجمالية ضمن رؤيتهم الفلسفية العامة للوجود، وانطلاقاً من الخلفية الميتافيزيقية أو الأنطولوجية التي كانت تؤطر هذه الرؤية. ويعتبر أفلاطون أول فيلسوف يوناني يهتم بقضايا الجمال والفن من منظور فلسفي. تقوم فلسفته على أساس نظرية المُثل، حيث تشترك الأشياء الحسية المتشابهة في صفات كلية يسميها أفلاطون جواهر الأشياء، التي يعتبرها الحقيقة الوحيدة في مقابل الأشياء المفردة التي تدركها الحواس، والتي هي في رأيه زائفة لأنها متغيرة ولا تحافظ على حالة واحدة، وبالتالي لا يمكن أن تعبر عن الجواهر والحقائق الموجودة في عالم المثل. أما نظريته الجمالية فهي محاولة للوصول إلى هذه الجواهر والحقائق الجمالية. يعني أن اهتمام أفلاطون لم يكن منصباً على معرفة الأشياء (الحسية) الجميلة، بل عما هو الجمال في ذاته. وعلى هذا الأساس انتقد محاكاة الفنانين المزيفة لأنهم يحاكون الواقع المحسوس الذي يعتبر نسخة لمثال، ومن ثم فإن فنهم مضلل ومخادع ولا يوصل إلى المعرفة الحقيقية، لهذا يحذر أفلاطون في محاورة الجمهورية من الفنانين والشعراء الذين يحاكون ويقلدون.

ثورة في الجمال

يلفت صاحب الكتاب، إلى أن الفلسفة الغربية في القرن العشرين قد أولت اهتماماً كبيراً للحقل الفني والجمالي. فإلى جانب الثورات العلمية والتقنية، فإن هذا القرن شهد ثورة في الحقل الجمالي، تجلت بشكل بارز في تلك المذاهب والحركات الفنية التي انتشرت منذ بداية القرن العشرين كالدادائية والتعبيرية والسريالية، ضمن سياق تاريخي عرف أكثر من أزمة، كالحربين العالميتين وصعود الأنظمة الشمولية والأزمات الاقتصادية والفكرية التي عرفها العالم الغربي المعاصر، والتي انعكست على الحقل الجمالي أو الفني بشكل أو بآخر. لذلك لا يمكن فصل الجماليات المعاصرة لدى كل كل من هايدغر وسارتر ولوكاش وأدورنو وماركوز ودريدا، وغيرهم من فلاسفة معاصرين عن هذا السياق التاريخي والفكري والفني للقرن العشرين، أحداثه وأزماته وتجلياته المختلفة. ويشير بومنير، إلى بعض المواقف الفلسفية، لا سيما التي أثرت في الفكر الفلسفي المعاصر عموماً والحقل الجمالي خصوصاً. فعلى سبيل المثال، يرى هايدغر أن ماهية العمل الفني تظهر في تجلي الحقيقة وفي انكشاف الكينونة، لذلك لا تنفصل الجمالية من جهة العمل الفني عنده عن مقاربته الانطولوجية الساعية إلى الكشف عن هذه الكينونة المنسية في تاريخ الميتافيزيقيا التقليدية. أما لوكاش، الذي اهتم كثيراً بالقضايا الجمالية في الفكر الماركسي المعاصر، فيرى أن وظيفة الجمالية تتمثل بالأساس في مواجهة مختلف أشكال التشيؤ التي تعرفها المجتمعات المعاصرة، وهي ناتجة من سيطرة النظام الرأسمالي. يقترب هذا الطرح كثيراً من تحليلات فلاسفة مدرسة فرانكفورت الألمانية الذين ذهبوا إلى  القول بأن الجمال والفن يمثلان احتجاجاً على الواقع القائم، ونقداً للوضع المزري الذي يعيشه الإنسان في ظل هيمنة العقلانية الأداتية التي حولته إلى كائن فاقد لأبعاده الإنسانية الحقيقية، لذلك كانت الجمالية ملاذاً للإنسان وخلاصاً من وضعه المزري، ومن المعاناة التي يعيشها في حياته اليومية.