العبارة الدارجة تقول إن "الناس معادن" والمراد بذلك هو أن الناس تختلف في الطباع حسنها ورديئها، وأساليب التعامل جيدها وسيئها والمواقف قويها وضعيفها، وكذلك في التحمل عند تعرضها لحرارة الشدائد والضغوط ما بين الثابت والمهزوز، وأيضا أنها تختلف عن بعضها بعضاً في القيمة ما بين الثمين والرخيص، وتختلف كذلك في النقاوة ما بين النقي والمشوب، كما تختلف المعادن عن بعضها بعضاً في هذه الخصائص جميعا.

Ad

وأما أنا فسأقول إن الناس وإن كانوا معادن وهذا صحيح ولا شك، فهم كذلك سوائل، نعم، إن الناس سوائل تختلف عن بعضها بعضاً في طريقة جريانها في الأوعية والقنوات التي تحكم الظروف والمقادير أن تجريها فيها.

هناك من الناس من هو ثقيل عسر كشأن السوائل الشحمية الثقيلة، لا يجري ولا يتحرك إلا بشق الأنفس، فلا يتجاوب سريعاً مع تغيرات الظروف من حوله، ناهيك عن أن يستشعر إشارات تغيرها قبل وقوعها، وكأنه يريد التمسك إلى الأبد بأوضاعه السابقة التي استكان لها واستراح، ولا يريد أن يخرج أبداً عن دائرة ذلك المألوف المريح.

وهناك من هو أخف من ذلك على درجات، فنرى من هؤلاء الناس من يتلكأ حينا ويجري حينا آخر، ومنهم من كأن أجزاءه تلتصق بجدران الوعاء الذي هو فيه، وكأنه يرفض تجاوز ذكرياته السابقة والإقبال على الحياة الجديدة بأوضاعها التي تغيرت، ومنهم، وهؤلاء هم الفائزون، كأنهم ذلك السائل الخفيف الشفيف الذي لا يتردد عن الجريان بخفة وسلاسة في الأوعية والقنوات التي تضعه الحياة بتحدياتها المتجددة وظروفها المتغيرة فيها.

تعلق الإنسان بأهداب الماضي وبقاياه، وتمسكه بقديمه المألوف المريح، لن يغير من حقيقة سنة التغيير شيئا، فهذه السنة مكتوبة على جميع البشر، والحياة لا تحابي المتلكئين المعاندين، والظروف لا ترأف بحال الرافضين للتغير، بل هي كالعجلة الحجرية الدائرة، ومن لا يعرف كيف يدور معها ويجرِ في مجاريها فسينته إلى أن تسحق عظامه وتمضي عنه مخلفة إياه وراءها يعض أصابع الندم.

الأشخاص الأكثر مرونة وسلاسة في هذه الحياة هم الأكثر نجاحا وسعادة، وأما المعاندون المتلكئون في الإقبال على التغيرات الحياتية وغير القادرين على الانسجام معها فهم الخاسرون الأشقياء.

وبالطبع، فمن حق الإنسان أن يرفض ويعاند، ولكن عليه أن يدرك تماما في المقابل أن هناك ثمناً باهظا سيدفعه. ستمضي عنه الحياة بعيداً، وتفلت فرصها من بين يديه، ويتفوق عليه أقرانه، وسرعان ما سيكتشف حقيقة الأمر بعدها فيدخل في نفق الحسرة والندامة فيكون خاسراً مرتين.

لنكن من السلسين الهينين أيها الأحبة، ولنجرِ في قنوات الدنيا وأوعيتها بخفة وسلاسة ومرونة، فلا نقاوم حين لا تنفع المقاومة ولا نعاند حين لا يجدي العناد، فلا نكون بذلك من الخاسرين.