العين التي تقرأ والعين التي ترى
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
متعة السينما تختلف في الجوهر عن متعة المخيلة التي تولدها القراءة. فأنا أعرف تماماً الأب كارامازوف. بكل سوقيته، شهوانيته، وتصابيه. كما أعرف أبناءه الثلاثة: ديمتري وإيفان وأليوشا. لقد تعاونت بهوى عال مع المؤلف في إنشاء كياناتهم المركبة، المعقّدة. لاحقت خلاياهم (كل خلية كلمة) التي خلقها المؤلف بدمه، وقد هيّأت مجسّاتي في أعلى حساسية وتوتّر لاستقبال وميضها الحاد. ولا غرابة أن أجدني في السينما مستعيناً قدر المُستطاع بالكلام والحوار الذي يتدفق من فم ديمتري مثلاً. فالخير والشر في كيانه يغليان في قِدر لا تُحسن إلا الكلمة نقل غليانه. ولكني معه على الشاشة أظلُّ نهباً لمؤثرات تعبيرات ممثله، والصوت وحيل عدسة الكاميرا. مع الكلمات أوفّره خليةً خليةً في مخيلتي. وما أيسر أن أقع عليه بين الناس الذين أعرف والذين لا أعرف.كان ممثلو الأفلام التي رأيتها لا يشبهون تماماً شخوص دوستويفسكي. وهل يمكن أن يحدث الشبه، وشخوص الرواية كيانات يؤلف القارئ ملامحهم عبر مصفاة كيانه هو. ولك أن تتخيل مصاف بعدد قراء الرواية، ووجوهاً لديمتري بعددهم أيضاً. ولذلك عودت النفس، حين أُقبل على مشاهدة فيلم عن رواية أعرفها، أن أوحي لها بأني مٌقبل على فيلم لا شأن له بما قرأت. مُقبل على بيت يُشبه، من حيث هو قالب، بيتي الذي ابتنيته. ولهذا القالب عناصر جمال وتأثير قائمة بذاتها.البارحة شاهدت الفيلم الجديد المُعد عن رواية «غاتسبي العظيم» للروائي الأميركي فيتزجيرالد (1896-1940). رواية حظيت بما حظيت به «الإخوة كارامازوف» من تبنٍّ سينمائي (6 أفلام، صدر أولها، وهو فيلم صامت، عام 1926). المقارنة بين الروايتين غير واردة. فنجاح «غاتسبي العظيم» لم يكن أكثر من ضربة حظ، وفرتها بضعة عوامل طارئة: (بعد فشل الرواية تجارياً، طبعت القوات المسلحة في أتون الحرب الثانية 150 ألف نسخة وزعتها على جنودها. ثم أُقرت في المناهج الدراسية). والفيلم الجديد من ابتكارات التقنيات الصوتية والإخراجية الفخمة التي كلفت الملايين، ولكنها تتركك «في قطيعة عاطفية، وتجعلك مجرد متلقٍ لا متعاطف». على حد تعبير أحد النقاد. على أن من قرأ الرواية لابد يتذكر بتعاطف نثرها المؤثر، ومعالجتها لمنحدر الحلم الأميركي، الذي اعتمد الثروة المادية هدفاً لا تعكر رؤيته وساخةُ السبل ورداءةُ الوسائل.