أقرأ «الإخوة كارامازوف» للمرة الثانية، بعد قراءة أولى في مطلع السبعينيات. وعلى عادتي أحب أن أتابع، حين أقرأ رواية، صداها في السينما، إذا توفر. ومع هذه الرواية ضللت الطريق، لأنها ألهمت مخرجين في أكثر من عشرة أفلام منذ 1915، ليس يسيراً ملاحقتها جميعاً. وبعض هذه الأفلام مسلسلات تلفزيونية بالغة الطول. الروسية منها (2008) تمتد لقرابة ثماني ساعات. والإيطالية (1947) في سبع حلقات.

Ad

بعد قراءة الرواية شاهدت عدداً من هذه الأفلام، وحلقات من المسلسلين الروسي والإيطالي. وفي كل واحدة من هذه المشاهدات أفتقد شيئاً بالغ الأهمية. شيئاً يرتبط باستثارة المخيلة عبر الكلمة. الفيلم يأسر المخيلة في الصورة الحية، في الحدث، في الشخوص. وهو فعل بالغ الإثارة والإمتاع. لكن نتاجه ذاك يختلف عن نتاج مخيلة القارئ. لأن نتاج المخيلة، داخل فعل القراءة، هو نتاج كيان القارئ كله، جسداً وعاطفةً وعقلاً. ولذلك بدت الثمار التي قطفتُها من قراءة رواية دوستويفسكي أكثر نضجاً وأعمق طعماً من ثمار الأفلام. كنت أجد صعوبة في مطابقة شخوص الأفلام مع شخوص الرواية. كنتُ أعددت الشخوص، بمعونة المؤلف، عبر الكلمات، الأسطر، الفقرات والصفحات. أعددتهم بدأب من يبتني بيتاً بيديه حجراً حجراً. في حين رأيتهم في الأفلام جاهزين. جاءوا دفعة واحدة في هيئات ممثلين ماهرين. تماماً كما يأتيك بيتك بقوالب جاهزة، ليُنصب أمامك في ساعة من الزمان. هذا إلى جانب الدعم الجانبي من المؤثرات الصوتية، ولعب الكاميرا.

متعة السينما تختلف في الجوهر عن متعة المخيلة التي تولدها القراءة. فأنا أعرف تماماً الأب كارامازوف. بكل سوقيته، شهوانيته، وتصابيه. كما أعرف أبناءه الثلاثة: ديمتري وإيفان وأليوشا. لقد تعاونت بهوى عال مع المؤلف في إنشاء كياناتهم المركبة، المعقّدة. لاحقت خلاياهم (كل خلية كلمة) التي خلقها المؤلف بدمه، وقد هيّأت مجسّاتي في أعلى حساسية وتوتّر لاستقبال وميضها الحاد. ولا غرابة أن أجدني في السينما مستعيناً قدر المُستطاع بالكلام والحوار الذي يتدفق من فم ديمتري مثلاً. فالخير والشر في كيانه يغليان في قِدر لا تُحسن إلا الكلمة نقل غليانه. ولكني معه على الشاشة أظلُّ نهباً لمؤثرات تعبيرات ممثله، والصوت وحيل عدسة الكاميرا. مع الكلمات أوفّره خليةً خليةً في مخيلتي. وما أيسر أن أقع عليه بين الناس الذين أعرف والذين لا أعرف.

كان ممثلو الأفلام التي رأيتها لا يشبهون تماماً شخوص دوستويفسكي. وهل يمكن أن يحدث الشبه، وشخوص الرواية كيانات يؤلف القارئ ملامحهم عبر مصفاة كيانه هو. ولك أن تتخيل مصاف بعدد قراء الرواية، ووجوهاً لديمتري بعددهم أيضاً. ولذلك عودت النفس، حين أُقبل على مشاهدة فيلم عن رواية أعرفها، أن أوحي لها بأني مٌقبل على فيلم لا شأن له بما قرأت. مُقبل على بيت يُشبه، من حيث هو قالب، بيتي الذي ابتنيته. ولهذا القالب عناصر جمال وتأثير قائمة بذاتها.

البارحة شاهدت الفيلم الجديد المُعد عن رواية «غاتسبي العظيم» للروائي الأميركي فيتزجيرالد (1896-1940). رواية حظيت بما حظيت به «الإخوة كارامازوف» من تبنٍّ سينمائي (6 أفلام، صدر أولها، وهو فيلم صامت، عام 1926). المقارنة بين الروايتين غير واردة. فنجاح «غاتسبي العظيم» لم يكن أكثر من ضربة حظ، وفرتها بضعة عوامل طارئة: (بعد فشل الرواية تجارياً، طبعت القوات المسلحة في أتون الحرب الثانية 150 ألف نسخة وزعتها على جنودها. ثم أُقرت في المناهج الدراسية). والفيلم الجديد من ابتكارات التقنيات الصوتية والإخراجية الفخمة التي كلفت الملايين، ولكنها تتركك «في قطيعة عاطفية، وتجعلك مجرد متلقٍ لا متعاطف». على حد تعبير أحد النقاد. على أن من قرأ الرواية لابد يتذكر بتعاطف نثرها المؤثر، ومعالجتها لمنحدر الحلم الأميركي، الذي اعتمد الثروة المادية هدفاً لا تعكر رؤيته وساخةُ السبل ورداءةُ الوسائل.