الولايات المتحدة ستترك أفغانستان بيد أمراء الحرب و«طالبان»
بعد مرور 11 عاما وسقوط أكثر من ألفي قتيل أميركي وجرح 18 ألف آخرين، وتكبّد تكاليف باهظة تفوق الـ600 مليار دولار، بدأت هذه الحرب (وهي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة) تخمد.
هذا الشهر، قالت فوزية كوفي، نائبة أفغانية وناشطة في مجال حقوق الإنسان: "أردنا الحصول على رسالة واضحة من أوباما مفادها أن الولايات المتحدة ستتابع دعم الديمقراطية في أفغانستان. إنه الحل البديل الوحيد عن (طلبنة) البلد".كان رأيها الصريح يعبّر عن حقيقة الوضع بعيداً عن المواقف المزدوجة والمبهمة: ستغادر الولايات المتحدة أفغانستان، وفي صباح اليوم التالي ستبدأ "طالبان" حملتها لاستعادة تلك الأرض المأساوية. بعد مرور 11 عاما وسقوط أكثر من ألفي قتيل أميركي وجرح 18 ألفاً آخرين وتكبّد تكاليف باهظة تفوق الـ600 مليار دولار، بدأت هذه الحرب (وهي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة) تخمد.
أصبحت "حرب الضرورة" التي تحوّلت إلى نقيض لمفهوم "الحرب الاختيارية" في العراق جزءا من ملفات واشنطن القديمة. لا يتحدث الكثيرون عن تلك الحرب الآن. حين حضر الرئيس حامد كرزاي إلى واشنطن في زيارة رسمية في 11 يناير، كان المزاج العام هادئاً ومتزناً. كان يستطيع أن يتعهد بتوفير الحصانة للقوات الأميركية التي ستبقى في بلده، ولكن ذلك الوعد ما كان ليغير مسار الوضع. كان كرزاي، أحد أمراء الحرب الحذقين، يدرك أن اللعبة انتهت في كابول بالنسبة إلى الأميركيين.فاز الرئيس الأميركي باراك أوباما بولاية رئاسية ثانية، بعد أن وصف أفغانستان بحرب الضرورة، وقد أصر على أن ذلك الصراع كان يهدف إلى الانتقام لأحداث 11 سبتمبر 2001 ضد الولايات المتحدة. ضاعف أوباما عدد الجنود في أفغانستان بعد مرور سنة على بدء ولايته الأولى. ثم نجح في احتواء الضرر المحتمل على عهده الرئاسي نتيجة الحرب في الأراضي الأفغانية "هندوكوش". لم ينجح الجمهوريون في التفوق عليه لأنهم كانوا يعلمون بدورهم أن هذه الحرب لم تكن تحظى بشعبية واسعة.نزعة واقعية سلميةلكن كان أوباما حذقاً بما يكفي، ففي مرحلة مبكرة، جرد الحملة الأفغانية من الوعود المبالغ فيها، ولم يكن يشارك الرئيس جورج بوش الابن شغفه تجاه حرب العراق الرامية إلى نشر "الحرية" في أنحاء العالم العربي. تحدث أوباما عن زيادة عدد "الطاقم المدني" من الخبراء والتكنوقراط في أفغانستان لمعالجة أبرز مشاكل البلد. لكن سرعان ما أصبحت هذه المسألة في طي النسيان، كانت النزعة الواقعية السلمية هي التي وجّهت تلك الخيارات.كان أوباما يشدد على أن الأميركيين سينهون الحرب "بشكل مسؤول". لقد كان يدرك حقيقة الرجل الذي يحكم في كابول. في كتاب "حروب أوباما" (Obama’s Wars) للمؤلف بوب ودوارد، يطرح الرئيس سؤالاً أساسياً عن "الشريك" المحلي في تلك الحرب ويجيب عنه بنفسه: "ما الذي يدفع كرزاي إلى تغيير مساره؟ يمكن أن يوافق الأفغان على أساليبه، لكن ستَعْلَق الولايات المتحدة في ذلك الصراع وتعالج مشاكل البلد لمصلحته".يمكن أن يجتهد الجنود الأميركيون ويقدموا التضحيات، لكن الرحلات من كابول إلى دبي (ثمانية في اليوم) قد تكون كفيلة بتمويل أمراء الحرب كي يستعدوا لحقبة ما بعد رحيل الأميركيين.ثمة مقولة شائعة تعتبر أن أفغانستان هي "مقبرة الإمبراطوريات". لكن أدت عقود من الفوضى والفساد إلى تدمير تلك الثقافة السائدة. تستفيد العصابات المقاتلة من المغامرات الاستراتيجية والإعانات التي تصل إليها من الجهات المانحة الخارجية المتورطة في الفوضى الأفغانية. قد يظن البعض أن هؤلاء الأفغان المتفاخرين يريدون مغادرة الأميركيين، لكن على أرض الواقع هم يخشون ذلك اليوم. لقد حالفهم الحظ حين اتخذ أعضاء "القاعدة" والمجاهدون والممولون العرب بلدهم كملجأ لهم. ثم نجح العرب بجر الأميركيين العظماء إلى الصراع والاستفادة من أموالهم. كانت هذه التجارة المربحة بالنسبة إلى الأفغان طوال عقد من الزمن جارفة.في عام 2009، شرح السفير الأميركي في كابول حينها، كارل أيكنبري، أساليب أفغانستان وكرزاي في وثيقة أرسلها إلى واشنطن: "الرئيس كرزاي ليس الشريك الاستراتيجي المناسب، فهو ومعظم المسؤولين في أوساطه لا يريدون أن تغادر الولايات المتحدة بل إنهم سيسعدون إذا عززنا استثماراتنا هناك. هم يفترضون أننا طامعون بأرضهم ونريد خوض حرب لامتناهية على الإرهاب مع استعمال القواعد العسكرية ضد القوى المحيطة".السخرية من الإمبرياليينبغض النظر عن رأينا بالعصابات المقاتلة في أفغانستان، فمن الواضح أن هؤلاء الأفغان لم يتفوهوا بملاحظة إيجابية واحدة عن دورنا في بلدهم طوال العقد الذي أمضاه الأميركيون بينهم. كانت تلك النزعة تنمّ عن "إمبريالية" لها بُعد جديد. لم يتوقف العملاء الذين يتكلون على الحماية الإمبريالية عن التشكيك في نوايا الحُماة الخارجيين.يبدو أن كرزاي نفسه هو الاستثناء الوحيد من بين الطغاة المزعجين الذين دعمتهم الولايات المتحدة خلال عقود عدة في الدول النامية. بالنسبة إلى كرزاي، كانت قوى التحالف طرفاً معتدياً يسبّب الألم والدمار للأفغان. في بعض المناسبات، احتل هؤلاء الحُماة الأجانب مرتبة أدنى من حركة "طالبان" نفسها.في نوفمبر 2011، أدلى كرزاي بتصريح لافت حول مكانة الأميركيين وشركائهم في بلده فقال: "الأسد يكره أن يقتحم الغرباء عرينه. الأسد لا يحب أن يدخل الغرباء بيته. الأسد لا يريد أن يأخذ أحدٌ صغاره في الليل. الأسد لن يسمح بحدوث ذلك. كل ما يتقبله الأسد هو أن يحرس الغرباء جميع مداخل الغابة".لكن يبدو أن "الأسد" سيبقى وحيدا في وقت قريب، لن يضطر الأميركيون بعد ذلك إلى تحليل وفهم مواقف "اللويا جيرغا" (المجلس الأعلى للعشائر). ولن نضطر إلى القيام بدراسات معمقة حول قوانين قبائل "البشتون" لأننا كشفنا أصلاً جميع الادعاءات الكاذبة والأقاويل الرخيصة.لكننا سنبقى أمام نساء أفغانيات جديات مثل فوزية كوفي والطالبات اللواتي يظهرن في زي المدارس حين يزور طاقم عمل القنوات التلفزيونية الخارجية ذلك البلد. لا مفر من أن يشعر الفرد بالخوف والقلق عليهن. لن تتمكن أولئك الفتيات من القيام برحلات إلى دبي. هن سيقبعْنَ هناك حين يعود جنود "طالبان" الوحشيون (بما يشبه "الخمير الحمر" في كمبوديا) لغزو البلد وتدمير كل ما حققه الحُماة الخارجيون.فؤاد عجمي Fouad ajami* مسؤول بارز في "معهد هوفر" التابع لجامعة ستانفورد ومؤلف كتاب "الثورة السورية" (The Syrian Rebellion).