القصة العراقية بدأت تتدفق، بعد التغيير عام 2003، في مجرى باتجاه استعادة ما حدث، تحت ظل سلطة البعث منذ مطلع السبعينيات في القرن الماضي. تدفقها في المجرى بدأ متعافياً بأقلام الجيل السبعيني والأجيال التي تلته. كتابها بدأوا فاعليتهم بحذر قبل التغيير، ومن لحظة هروبهم إلى الخارج مباشرة. ولكنهم بعد أن انهارت قوة صدام حسين بفعل الحروب والحصار الذي قوضه وقوض الناس معه، صار شاغل الاستعادة يداعب كيانهم النازف.

Ad

بعد التغيير، وبالرغم من خيبة الأمل، بدأ هذا الشاغل يحفر مجراه بصورة لافتة للنظر. انزوت القصة القصيرة حييةً، وكأنها لا تليق بمأزق له هذا الحجم، وتصدرت الرواية. صارت سلطة البعث موضوعاً يقدر أحدنا أن يُطل عليه بأمان وثقة. على أن هذه الإطلالة لن تكف عن الدموع والنحيب الداخلي.

الروايات التي صدرت حتى اليوم أشبه برايات سوداء محنية الظهر تحت وطأة مناخ مترب وغائم.

العقد السبعيني طواه النسيان بسبب العقدين الداميين التاليين له. وأبناء هذين العقدين التاليين (الثمانيني والتسعيني)، أطفال ليل الحروب والحصار، لم يكونوا، إلا قلة قليلة منهم، مؤهلين لاستعادة ذلك العقد. ولعلهم لا يميلون إلى فكرة استعادته من قبل أحد. فهو يكشف عن أكثر من عورة، تبدو لأعينهم باهتة مقارنة بما حدث لهم بفعل الحرب والحصار، لا بفعل سلطة البعث طبعاً. وهذا مأزق يبدو أن الجميع، في مرحلة الفساد الحاضرة والضاربة، في غنى عنه.

عبدالله صخي أحد أبناء ذلك العقد السبعيني. بدأ شبابه الأول بكتابة القصة القصيرة. ولكن شاغل القصة حينذاك لم يقوَ على شاغل المخاوف والحرص على الخلاص الفردي بالهرب، شأن الذين هربوا، فتعطل نشاطه الكتابي قليلاً. أصدر هذه الأيام رواية بعنوان «دروب الفقدان» (دار المدى 2013)، وهي دروب سنوات السبعين بالتأكيد، ولكن داخل مدينة «الثورة». عنصران يمنحان للرواية امتيازاً خاصاً، فالعقد السبعيني يحتاج أكثر من مراجعة نقدية، وروائية. ومدينة الثورة كذلك. وعبدالله صخي أحاط بكليهما إحاطة بليغة في روايته الجديدة هذه.

«في ذلك اليوم ذهب علي سلمان لمشاهدة تنفيذ أول عملية إعدام علنية في مدينة الثورة». الجملة الأولى في الرواية تُطمئن القارئ إلى أن فن «الرواية» وفن «التاريخ» يمكن أن يتبادلا مهمتهما دون ضرر. فالرواية يمكن أن تكون «تأريخاً» لا تحتاج فيه إلى أن تُقحم عنصر خيال، أو براعة لغة، لفرط ما في هذا التاريخ من دراما عذاب وموت يفوقا كل خيال وكل لغة. والكاتب لم يحتكم إلى هذين، أو هكذا توحي مسيرة علي سلمان، فتى العائلة الجنوبية المهاجرة من الريف المُستعبد الجائع إلى الحاضرة بغداد. فكل شيء يتتابع بطواعية، مثل صفحات كتاب تقلبه الريح. علي سلمان فتى يطمع بسلامة عائلة، وبتكملة دراسة، وبحب يرطب حرمانه، وبتحقق أمنية في الغناء، بفعل حنجرة مؤثرة على السامعين. والشخص المعدوم «نايف الساعدي» هو الآخر من جيل «طلع من الغَضار والأحراش والرماد».

جاؤوا جميعاً مع عوائلهم إلى صرائف وأكواخ وحرمان وجوع العاصمة بغداد. ثم أصبحت طباعهم، تحت سلطة البعث، «حادة كأسلحتهم». علي سلمان الذي يحلم بالغناء يلاحق ويُعدم بسبب عدم انتمائه. وبشار رشيد يلاحق ويُعدم بسبب انتمائه. والساعدي يلاحق ويُعدم لأنه قتل رجال أمن بسبب ملاحقاتهم. أجيال العراق جميعاً تولد والتهمة تميّز جباههم، ولكن أجيال مدينة الثورة خُصّوا بملاحقة التهمة، والحرمان واقتلاع الجذور معاً. والرواية تحلّق في بحر من عناصر الذل هذه، واضحة في حياة عائلة علي سلمان. وخاصة في شخصية الأم مكية الحسن.

أحداث الرواية لا تُلخّص لأن تأثيرها كامن في قراءتها. في سياق نثرها المتطامن المستسلم، كأنه نثر غائب، بفعل تدفق الأحداث وحيويتها.

وعبدالله صخي سبق أن أصدر رواية بعنوان «خلف السدة»، بدت لي، مقارنة بهذه، أشبه بتقرير صحفي يعرض بصورة وفية ووافية جملة الحياة في مدينة الثورة. ولتكن تلك خلفية نافعة لهذه. رواية تستحق القراءة بالتأكيد.