لم تشهد الكويت انتخابات حرة حقيقية بعد انتخابات عام 1963، فأعداء الديمقراطية في النظام كانوا لها بالمرصاد، فقد سارعوا إلى تفريغها من كل مقوماتها، حال وفاة راعيها، المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح، عام 1965، فزوَّروا انتخابات عام 1967 بشكل فج، وهدموا كل ركائزها، بتعليق العمل بقانون الانتخاب، ثم عبثوا بالتركيبة السكانية، وخلقوا نواب الخدمات، بتخريب الجهاز الحكومي، لتسهيل مهامهم في كسر كل القوانين لحل المشكلات المعيشية لأفراد الشعب، الذي وجد نفسه عاجزاً عن الحصول على حقه بالطرق المشروعة.
كما انتشرت ظاهرة الرشوة من قِبل بعض المرشحين وأفراد من النظام، وتم تسهيل نقل الأصوات للأتباع... كل هذه الإجراءات، وغيرها، جعلت مخرجات العملية الانتخابية تحت إمرة النظام، الذي استطاع أن يضمن أغلبية "طيّعة" في كل مجالس الأمة، بفضل هذا التزوير.ومع كل هذا، كانت قوى المعارضة الرئيسة تخوض الانتخابات، لأنها اعتبرت وجود مجلس أمة، حتى بهذا الشكل، يوفر لها فرصة لإيصال اثنين أو ثلاثة من عناصرها لفضح التلاعب، وكذلك المساعدة في تنمية الوعي والاتصال بالناس وتحقيق بعض المكاسب المهمة، كتأميم النفط، من خلال تجنيد الشارع، لتحقيق مثل هذه الأهداف.غيرنا من القوى الوطنية قاطع الانتخابات عام 1971، احتجاجاً على هذا التزوير المستمر، معتقدين أن ذلك سيرغم النظام على إصلاح ما أفسده، غير مدركين أن هذه المقاطعة من قِبلهم حققت الهدف المُراد بالنسبة للسلطة... لذلك عاد المقاطعون إلى المشاركة عام 1975، عندما تعرَّت نوايا النظام المُعادية للتجربة الديمقراطية كلها.والسؤال الآن: أين القضاء؟ وأين السلطة القضائية والمحكمة الدستورية من كل هذا؟ ألم ينص الدستور على أهمية تشكيلها لضبط العملية الدستورية وفرض احترام الدستور؟ لماذا لم تبادر الحكومة إلى سن قانون المحكمة الدستورية وعرضه على المجلس، استكمالاً للنظام الدستوري؟الجواب، لأنه يحدّ من إمكاناتها بالعبث بالدستور، وهذا الأمر جعلنا نبادر في مجلس 1971 إلى تقديم قانون خاص للمحكمة الدستورية، ما جعل الحكومة تقدّم مشروعها المضاد، الذي جعل الوصول إلى المحكمة الدستورية من قِبل الأفراد، حتى مجلس الأمة، مستحيلاً، كون أغلبية أعضاء المجلس أتت بهم الحكومة، تزويراً، كما ذكرت آنفاً.والحقيقة التي يجب أن تُقال، انه كان لدينا هاجس بأن تلجأ الحكومة للمحكمة الدستورية، لتفريغ الدستور من محتواه، لأننا لم نجد منها حماية للدستور من قوانين كثيرة اعتدت على الحريات العامة التي كفلها الدستور.وزاد هذا الهاجس بتعامل المحكمة الدستورية مع القوانين التي صدرت أثناء حلّ المجلس، في الفترة الواقعة بين عامي 1976 و1981، فمع أن المحكمة أقرت بأن هذه القوانين لا تخضع للدستور، ولا لقانون المحكمة الدستورية، فلا ولاية لها عليها، أي إنها غير دستورية، إلا أنها قالت إنها صدرت من حكومة قائمة لها الحق في إصدار المراسيم والقوانين لتسيير أمور الدولة، والأنكى من ذلك أنها أعطتها حصانة غير عادية من المادة 71 من الدستور، التي تلزم الحكومة في فقرتها الثانية بتقديم جميع القوانين التي صدرت في غياب المجلس إلى أول مجلس يُنتخب خلال أسبوع من انعقاده.سابقة خطيرةوأعطت هذه القوانين أهمية خاصة لا تتمتع بها القوانين الدستورية الأخرى، وفي هذه سابقة خطيرة وتعديل للدستور، فهو يسمح للحكومة بتمرير أي قانون تريده باللجوء إلى الحل غير الدستوري، خصوصاً أن التزوير المستمر في الانتخابات يضمن لها أغلبية مريحة لحماية هذه القوانين.وهنا لابد من الإشارة إلى موقفي الخاص من انتخابات مجلس الصوت الواحد، فقد دعوت إلى المقاطعة، بعد أن كنت مع المشاركة في الانتخابات، كالعادة، وضد المقاطعة، فقد كان تعديل التصويت بالنسبة لي جزءاً من مسلسل تخريب الانتخابات، ولم يأت بجديد، ودعوت إلى المقاطعة، عندما اتضح أن العالم كان متلهفاً لمعرفة ما إذا كان الربيع العربي سيصل إلى شباب الخليج أم سيغرق في بحر بترول الخليج؟ أي، هل "البحبوحة" مقبرة للكرامة أم لا؟ لهذا دعوتي للمقاطعة كانت للرد على هذا السؤال، وتأكيد أن شباب الكويت يهمه كرامته، ويحركه تمرده على المذلة التي عاشها الشعب العربي قروناً طويلة.ولله الحمد، فقد أتى جواب شباب الكويت مدوياً، برفض المذلة.قانون الضرورةسيكون الوضع تاريخياً في هذه المرحلة، لأننا أمام مقولة جديدة لم نسمع بها من قبل، وهي حق الحكومة وحدها في أن تحدد معنى "الضرورة"، التي تسمح لها بتجاوز مواد الدستور دون موافقة مجلس الأمة والمحكمة الدستورية، وهذا ما نبه لخطورته خبراؤنا الدستوريون والمحكمة الدستورية المصرية.هذا الفهم لمراسيم وقوانين الضرورة يعني إلغاء كاملا للدستور، فلن يكون هناك دستور، بل سلطة قادرة على تمرير أي قانون تشاء تحت هذه السلطة المُطلقة.نحن الآن أمام كارثة جديدة، من الممكن أن تنهي نظام الحكم في الكويت، كما عرفناه منذ نشأتها، والذي تم تقنينه بوثيقة تعد عقداً بين آل الصباح والكويتيين، اتفقوا عليها بقناعة تامة من دون إكراه، وتمخضت عن ولادة دستور 1962.نحن الآن نشاهد محاولة جادة لنسف هذا كله، وبمفهوم يكرّس الانفراد باتخاذ القرار باتجاه واحد دون مشاركة أو رقابة من أحد.فالقيود الدستورية لهذا القرار، كما ذكرت المحكمة الدستورية المصرية، هي التي "تصون الديمقراطية من أن تتحول من مذهب سياسي ودستوري إلى فلسفة "ميكافيلية" خطيرة قد ينزلق إلى مهاويها أشد الحُكام إخلاصاً وحرصاً على تحقيق المصلحة العامة، فتنتكس الحياة الدستورية، ويضيع في غمار ذلك كل ضمان لحقوق الأفراد وحرياتهم".وقد أكد ذلك كل من د. عثمان عبدالملك ود. الطبطبائي في مذكرة كل منهما، والتي فصلها الأخ عبدالله النيباري في مقاله الأسبوع الماضي بجريدتي الطليعة والقبس، ولا داعي لإعادتها، تجنبا للإطالة.ثقة كبيرةلم أيأس بعد من القضاء، بل إن ثقتي كبيرة بقضائنا، وهذا ليس تمنياً، بل هناك مؤشرات مهمة تجعلني دائماً أكرر قولي، بأهمية القضاء واحترام قراراته، وحقه في أن يثبت استقلاله التام، فالقضاة ليسوا موظفين في الدولة يأخذون رواتبهم من الحكومة، لينسجموا مع رب العمل، فهم على العكس من ذلك... فالقضاء المستقل هو العمود الفقري الذي يثبت دعائم النظام الديمقراطي، فمن دون قضاء مستقل لا وجود لدولة ديمقراطية، فهو الحماية الحقيقية والأكيدة للنظام، كما قالها Chunchil.دعوني أذكركم بأحكام رائعة صدرت من قضائنا الشامخ:1- تبرئة المرحوم ناصر الفرج، رئيس اتحاد العمال، بعد اعتقاله وتعذيبه، بسبب موقفه من حلّ المجلس، وطلب القاضي منه أن يُقيم دعوى ضد أجهزة الأمن، التي عذبته عندما شاهد آثار التعذيب البشع الذي تعرَّض له.2- الحُكم الذي صدر بعدم دستورية مواد كثيرة من قانون التجمعات.3- الحُكم الذي صدر بإلغاء أمر بحل مجلس أمة 2009.4- الأحكام الكثيرة التي بموجبها تمَّت تبرئة الكثيرين من شبابنا من تهم "ملفقة".5- الأحكام التي صدرت، ولاتزال تصدر، ضد أفراد النظام في قضايا متنوعة.إن ثقتي بقضائنا لم ولن تهتز أبداً، ومع أنني أدرك تماماً أن القضاة بشر، إلا أنهم كويتيون، وتهمهم مصلحة البلد وأمنه، في ظروف داخلية وإقليمية دقيقة لن نتمكن من تخفيف آثارها علينا، إلا بمسيرتنا التي اخترناها، ووفرت لنا الحماية طوال تاريخنا كله.إن انتكاساتنا حدثت، عندما تجرأ النظام على ضرب هذه المسيرة، فحماية وطننا تكمن في حماية دستورنا ووثيقتنا التي تعاهدنا على احترامها لمصلحتنا جميعاً.
مقالات
محنة الدستور بمفهوم الضرورة
12-06-2013