ياسر هويدي مخرج مصري شاب عمل كمساعد مخرج في كثير من الأفلام الروائية والوثائقية، وأخرج ثلاثة أفلام وثائقية هي: {حكاية لوريكا، مباشر من كولومبيا، الحكاية كما يرويها إدواردو}. لكنه فاجأني أخيراً بفيلمه الروائي القصير «من فوق لتحت»، الذي لم أستسغ عنوانه، وأرى فيه الكثير من السطحية التي لا تعكس مضمونه الرصين، ولا تتناسب مع لغته السينمائية الراقية.

Ad

تتحرك الكاميرا بسلاسة ونعومة داخل ممرات بناية ضخمة يرتادها كبار رجال الأعمال، وتبدأ الأحداث في الطابق التاسع والخمسين بصدام بين رجلين؛ أولهما غربي والثاني عربي الملامح، بسبب انشغال الرجل الغربي بمكالمة هاتفية تؤدي إلى عدم انتباهه إلى مرور الرجل العربي، وارتطام جسديهما، وانسكاب كوب القهوة الذي يحمله على بزته الفاخرة، وبعنجهية «الرجل الأبيض»، الذي يرى نفسه فوق الجميع، يتهم الرجل العربي بالغباء، ويُطالبه بأن يدفع حساب «المغسلة»، فيما يُعلق العربي ساخراً: «ولم لا أدفع أجر طبيبك النفساني أيضاً؟»!

بداية ساخنة للغاية تؤكد أن الإثارة والحركة (الأكشن) لا تقتصران على مشاهد المعارك وتبادل اللطمات والصفعات أو مطاردة السيارات، بل يمكن أن تتجسدا في مشهد تؤدي فيه لغة الحوار الدور الرئيس والأكبر، وتمثل وجهات النظر المتبادلة قمة التوتر وذروة التشويق، وهو ما حدث بالفعل عندما تجاوز الرجل الغربي في حق العربي قائلاً بصفاقة: «هذه هي مشكلة أمثالكم من البشر»، وأضاف بوقاحة: «لولانا لما زلتم تركبون الجمال، وتسكنون الخيام!»، ما استدعى رد الأخير عليه بقوله: «ولولانا نحن لكنتم تعانون البطالة في بلادكم الكئيبة». وفي جملة دخيلة تبدو خارج السياق، كونها تصب في خانة مُصادرة الحريات، يُعلق: «أنتم كلكم مدمنو كحول، ونساؤكم يرتدين البكيني في المولات»، فيعود «الأبيض» للقول: «ما تحتاجونه هو درس في التاريخ»، ويرد «العربي»: {وما تحتاجه أنت هو ركلة على مؤخرتك»!

في تلك اللحظة تتطور المشادة الكلامية، وتصل إلى درجة الالتحام الجسدي بين الغريمين، ما يستدعي تدخل رجل الأمن، الذي يُطالبهما بالانتقال بشجارهما إلى خارج البناية، التي تكتظ برجال الأعمال ويخشى من الإضرار بسمعتها في ما لو قيل إنها تعج بالبلطجة، ويستجيب الرجلان ويتفقان على العراك في قاعة الاستقبال. لكن الصدام اللفظي بينهما ينتقل إلى المصعد، طوال رحلة هبوطه من الطابق التاسع والخمسين إلى الطابق الأرضي!

هو صراع أو صدام حضارات بمعنى الكلمة؛ فالمغزى واضح من وراء حدوث المشادة بين «الغربي» و{العربي»، كذلك التركيز على نبرة الازدراء والتعالي، فضلاً عن النظرة الدونية التي يكنها «الغربي» تجاه الرجل «العربي» أو «الشرقي»، والكراهية المتبادلة الناتجة من صورة ذهنية جرى تكريسها طويلاً، وكانت سبباً في إقامة حاجز نفسي صلب، سعى المخرج الشاب إلى تدميره من خلال تأكيده أن الخلاف وهمي، وغير مبني على أسس موضوعية، وهو الذي نوه إلى إصرار «الآخر» على تشويه الإسلام، وإهانة المسلمين عبر اتهامهم بالتحرش الجنسي والانحراف النفسي، بينما بدا واضحاً أن السلوكيات الشاذة وعدم مراعاة مشاعر الآخرين يصدران عن  جنسيات غير عربية أو إسلامية؛ كالمرأة الأوروبية التي لم تتوقف عن التلويح بباقة الزهور في وجوه الآخرين، والآسيوية التي أزعجت الجميع برنين هاتفها، والسيدتان اللتان سارعتا بتفسير العلاقة بين الرجلين على محمل سيئ.

يؤصل الفيلم لنظرية مهمة تُشير إلى أن اتهام العربي بالإرهاب محض افتراء، ونتاج سوء فهم والتباس، بل مبالغة وتهويل كشف عنهما المخرج بذكاء، بإدانته حالة الاستنفار الكاملة التي أعلنها أمن البناية، بعد استنتاجه الخاطئ بأن الرجلين «إرهابيان»، ورصد الفيلم للفوضى التي سادت المشهد، نتيجة ارتباك وهلع قوات الأمن، والعجز الواضح عن التعامل مع الأزمة، والتقديرات الخاطئة للموقف.

في رقة لا تعرف الغلظة ورسالة حققت الهدف بكثير من المنطق بعيداً عن الخطابة أو المباشرة، يدخل الرجلان في مرحلة قوامها الحوار والتفاهم المتبادل المعتمد على الحقائق، والتقارب الإنساني المبني على المعرفة، ويتبادلان البطاقات الشخصية، بعد انهيار حاجز الكراهية المفتعلة، وينصرفان بعد الاتفاق على تبادل الاتصال الهاتفي، فيما تستمر المبالغات والأكاذيب؛ حيث يواصل رجال الأمن  البحث عن الإرهابيين، وعندما تنقطع أخبارهم عن قائدهم يُخيل إليه أنهم رهائن أو مُقيدو الأيدي والسراح في مكان ما!

مجدداً أسجل انزعاجي من عنوان «من فوق لتحت»، وأتصور أنه أساء كثيراً إلى سيناريو كريغ هوز، الذي تناول قضية فكرية على جانب كبير من الأهمية، كذلك أهدر جهد مخرج موهوب اسمه ياسر هويدي قدم عملاً فنياً رائعاً وظف فيه، وعلى أكمل وجه، عناصر التصوير والموسيقى والمونتاج والتمثيل، وبقي أن نتيح له فرصة إخراج فيلمه الروائي الطويل.