اللغة وثقافة الآخر
قد يكون مقتضبا ذلك التصريح الذي صدر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو) بشأن مستقبل اللغة العربية في البلاد العربية ذاتها، وما يتهددها من «مخاطر»، إلا أن الواقع أكثر إيلاما، فالعربية، ليست تعاني هجرا من أصحابها فحسب، بل إن الأمر يمتد إلى مشكلات بنيوية وسلوكية عميقة، تتعلق بالأفراد متحدثي هذه اللغة، ففي الوقت الذي استبشر فيه الناس خيرا بانطلاق قنوات التلفزة، وذلك الأفق اللامحدود من المعرفة، والثقافة، والترفيه الذي يسبح في فضائه المواطن العربي، وجدنا أنفسنا أمام معضلة أخرى تتعلّق بتسطيح المعرفة، وتقديس اللغات الأجنبية، الإنكليزية بالدرجة ألأولى، ومن ثم الفرنسية، ووجدنا مقدمي برامج لا يحسنون نُطق جملة عربية فصيحة واحدة، بشكل سليم، الأمر الذي يجعلهم يلجأون إلى لهجاتهم المحلية، بل ان أغلبية البرامج وحتى العلمية والثقافية منها أصبحت تقدّم باللهجات المحلية، وبالتالي فإن من يتقدم إلى وظيفة إعلامية أصبح يُسأل بالدرجة الأولى عن اللغة الأجنبية التي يجيدها، وليس العربية، برغم أن هذه المؤسسة الإعلامية هي ناطقة بالعربية، وموجهة إلى البلاد العربية. يتعلّق الأمر هنا بحالة انهزام نفسية تعانيها هذه المؤسسات والقائمين عليها، وهو أمر قد ينسحب على الشارع العربي برمته، إذ إننا نجد في مجتمعات عربية وخليجية من يعتز بأن ابنه لا يجيد العربية بطلاقة، فهو يدرس في مدرسة إنكليزية أو فرنسية، حتى لو تضمن هذا الجهل كتابة أخطاء إملائية ونحوية مضحكة ومؤلمة في الوقت ذاته، كل ذلك من أجل إظهار شيء من «التحضر»، والاعتزاز بثقافة الآخر، وتحضرني هنا حادثة روتها لنا إحدى الأستاذات المحاضرات، في قسم اللغة العربية بجامعة الكويت، إذ إن هذه الأستاذة دعيت إلى مؤتمر فكري في مدينة لندن، وكان مطلوبا منها تقديم بحث عن أحد شعراء العصر العباسي، وكانت المفاجأة أن طُلب منها إلقاء البحث باللغة الإنكليزية، فأبدت تعجبها، وأصرت على قراءة بحثها باللغة العربية، لشاعر عربي بامتياز، وحمدا لله على وجود الترجمة الفورية في كل الأحوال. ليست تعنينا هذه الحادثة لذاتها، فهي «عادية» وربما تتكرر هنا أو هناك.
ولسنا هنا بصدد مناقشة أهمية إجادة لغات أخرى، فذلك أمر مفروغ منه، وهي ميزة حسنة أن يجيد أحدنا لغة أخرى، أو أكثر من لغة، إلا أن المعيب الافتخار بجهلنا باللغة العربية، والتقليل من أهميتها، والتقليل من شأن من يجيدها، ويتحدث بها، ولنا أن نتأمل تلك الخطابات التي يلقيها السياسيون العرب في المحافل الدولية لندرك مستوى جهلنا بلغتنا، وليس السياسيون فحسب بل إن الأمر يمتد إلى تلك المؤتمرات الفكرية والثقافية الناطقة باللغة العربية، وهؤلاء مثقفون، وليسو ساسة، ورغم ذلك حدّث عن الأخطاء ولا حرج.أما بالنسبة إلى قضية تعريب العلوم، فتلك معضلة أخرى، وكم من مؤتمر خصص لمناقشة هذه القضية إلا أننا في النهاية ننتهي إلى توصيات ليست أكثر من حبر على ورق، ومن بعدها يعود الطلبة أدراجهم إلى الكليات العلمية والتقنية لتلقي محاضرات باللغة الإنكليزية، وقراءة كتب علمية لا يعنيهم منها شيء سوى تلك المعادلات الرقمية، وما يوصي الأستاذ المحاضر، بالوقوف عنده. يقال إننا لا نملك الميزانيات الكافية ولا الكفاءات العلمية لتعريب هذه العلوم! فظهرت دعوات صريحة، هنا في الكويت، إلى التدريس باللغة الإنكليزية في كل الكليات العلمية، ما يعني أننا أمام طالب يتلقى تعليمه في جميع المراحل الأولية باللغة العربية (في مدارس الحكومة على أقل تقدير)، ثم يأتي إلى المرحلة الجامعية ليجد نفسه أمام أستاذ محاضر باللغة الإنكليزية في جميع المواد، قد يكون هذا المحاضر إنكليزيا بالأساس، أو عربيا يتحدث في الغالب بُلغة إنكليزية «ركيكة».