وصل الإسلاميون- الإسلام السياسي- إلى السلطة، وأصبحوا حكاماً لدول الربيع العربي كما أصبحوا مشاركين في الحكم في دول عربية أخرى، وصلوا بانتخابات وديمقراطية لا عبر انقلابات عسكرية، لقد تحقق حلمهم في الحكم بعد انتظار طويل وهم اليوم يعيشونه واقعاً وينعمون بثمار كفاحهم، لقد عانوا طويلاً وتعرضوا لمحن كثيرة لكنهم ثبتوا وصبروا ولم يفرطوا في مبادئهم، كانوا مطاردين في المنافي ومتهمين في السجون ومستضعفين في الأرض، يخافون أن يُخطفوا، فأبدلهم المولى عز وجل بعد خوفهم أمناً ومكن لهم في السلطة فانتقلوا من أقبية السجون إلى قصور الرئاسة والحكم!

Ad

من كان يتصور المرشد العام لـ"الإخوان" في مصر الذي كان مهمشاً وجماعته محظورة، يدخل اليوم القصر الرئاسي معززاً مكرماً؟! ذلك مكر التاريخ يسري في عمق المجتمعات ويغير الأحوال ويبدل الأوضاع ويذل أناساً ويرفع آخرين، والأيام دول، مصداقاً لقوله تعالى "وتلك الأيام نداولها بين الناس". دارت الأيام وتغير الزمان، وهذا زمان الإسلاميين، وهذه أيامهم، ولى زمن القوميين واليساريين والعسكر الذين حكموا فتسلطوا وأفسدوا وأخفقوا، وصل الإسلاميون إلى السلطة بعد ثورات لم يكونوا هم مفجريها، لكنهم شاركوا فيها ونجحوا في امتطاء جوادها وفازوا في الانتخابات، لأنهم الأفضل تنظيماً والأكثر تواصلاً مع الناس وتقديم الخدمات لهم والأنجح في جمع الأموال وفي تعبئة الجماهير وحشدها ولأنهم في نظر قطاع كبير من الجماهير الأكثر أمانة ونزاهة.

وأيضاً بفضل دعم قوة سياسية وجماهيرية عريضة أعطت صوتها لهم كراهة في رموز الأنظمة السابقة، لذلك يعجب المرء من تصريح المرشد السابق لـ"الإخوان" محمد عاكف عن الثورة بأن الله تعالى هو الذي أقامها ونصرها، ليؤكده الرئيس المصري مرسي بقوله: "الثورة من صنع الله تعالى ولا دخل للإنسان فيها"!

كلٌ من عند الله تعالى ولا تعارض بين إرادته تعالى وإرادة البشر، فهل المقصود إنكار جهد الشباب الثوري الذين أعطوا صوتهم لـ"الإخوان" في قيام الثورة!؟ مع أن الإسلاميين لم يكونوا الضحية الوحيدة للاستبداد العربي، إذ كان اليساريون والليبراليون- أيضاً- ضحايا، إلا إنهم نجحوا في تسويق أنفسهم باعتبارهم الضحية التي قاومت تلك الأنظمة من أجل الإسلام.

اليوم أصبح الإسلاميون قادة، وانتقلوا من حالة المحنة إلى حالة التمكين، لكن التمكين نوع من الابتلاء والاختبار، وهو يكون بالشرع، ويكون بالخير، وهو أشد، على أن أشد أنواع الابتلاء يكون بالسلطة، ولذلك فمسؤولية الإسلاميين في السلطة أعظم من مسؤولية القوميين واليساريين والعسكر، مسؤوليتهم أمام ربهم عز وجل- أولاً- باعتبارهم حملة رسالة الإسلام، ومسؤوليتهم أمام جماهيرهم التي وثقت بهم وأوصلتهم إلى الحكم... فهل يحكمون بالعدل؟ وهل ينصفون الناس؟ وهل يحكمون الحقوق ويكفلون الحريات؟ وهل يحققون أهداف الثورة ومطالب الجماهير؟ وهل ينجحون في الاختبار مصداقاً لقوله تعالى "وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ".

التحديات كبيرة والمسؤوليات ضخمة ومشكلات المجتمعات العربية متشابكة ومعقدة، والإسلاميون لا خبرة كافية لديهم في أمور الحكم والسلطة فجلّ خبرتهم في المعارضة وتعبئة الجماهير وتحريضها ضد الأنظمة والغرب وأميركا وتوظيف المنابر والفتاوى والمواقع الإلكترونية في خدمة أهدافهم السياسية، ليسوا متمرسين في فن إدارة الاختلاف السياسي بما يحقق التوافق الوطني ويجمع الفرقاء، ويوحد الصف ويستثمر الموارد والطاقات المجتمعية لخدمة برامج التنمية.

الآن: بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة وانتقالهم من مرحلة الخطاب الدعوي والسياسي التنظيري إلى مرحلة الرؤى والبرامج التنفيذية والعلاقات الدولية، فإن التساؤلات المطروحة: هل يتغير الإسلاميون في السلطة ويصبحون براغماتيين وواقعيين في تعاملهم وسلوكهم السياسي مع القوى الوطنية في الداخل وفي علاقاتهم السياسية والاقتصادية بالخارج؟ وهل يتقبلون مشاركة الآخرين من العلمانيين واليساريين في الحكم؟ ما نموذج الدولة المنشودة: مدنية أم دينية؟ وما مفهومهم للمواطنة؟ وما نظرتهم لحقوق المرأة والأقليات؟ وما موقفهم من الفكر الديني العنيف؟ هل يملكون مشاريع سياسية واقتصادية مختلفة عن الأنظمة السابقة؟!

هذه التساؤلات وغيرها مثارة بشدة منذ وصول الإسلاميين إلى السلطة وتصاعد المخاوف من انفرادهم بالسلطة وتقويضهم بمقومات وأسس لدولة المدنية وعدم الثقة بالتزامهم بقواعد اللعبة الديمقراطية. الجدل شديد في الساحة وعلى المستويات كافة، ويمكن تلخيصه في إجابتين: الأولى: ترى أن الإسلاميين في السلطة يتغيرون، ويصبحون براغماتيين، لأن منطق السلطة غير منطق المعارضة، ومتطلبات الحكم ومسؤولياته، غير متطلبات المعارضة ومسؤولياتها- من هنا- ترى وجهة النظر هذه، أن احتياجات الجماهير الملحة إضافة إلى مراعاة المصالح العليا للوطن، تفرضان على الإسلاميين الحكام أن يكونوا مرنين، عقلانيين، منفتحين، معتدلين، وهذا ما حصل بالفعل بالنسبة إلى خطاب "الإخوان" وسلوكهم في مصر، إذ تغير خطابهم 180 درجة من معاداة أميركا والغرب والتحريض ضدهما إلى السعي لصداقتهما والتحالف معهما وتوثيق العلاقات بهما.

لقد كان "الإخوان" فيما مضى سادة الميادين في مناهضة أميركا ومقاطعتها، واليوم يصرخ خيرت الشاطر- نائب المرشد العام- (تحالف "الإخوان" مع أميركا، تحالف استراتيجي"، وكان "الإخوان" ضد اتفاقية السلام مع إسرائيل واليوم يعلنون التزامهم بها واحترامها، وينصحون "حماس" بالتهدئة، وبالنسبة إلى قروض صندوق النقد الدولي، كانوا ينتقدون نظام مبارك بسبب سياسة الاستدانة منه، واليوم يسعون إلى سياسة الاستدانة ويتوسعون فيها ولا يجدون حرجاً في الاستدانة من الصندوق وقبول شروطه القاسية، ولا يرون في فوائد القروض ربا محرماً!  وفي تونس، يصل الغنوشي زعيم "النهضة" إلى قمة المرونة فيما يطرح بأن حزبه لن يمنع البكيني ولن يغلق البارات "فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا"، ويصرح الرئيس التونسي المرزوقي بأن الشراكة بين العلمانيين والإسلاميين، خيار استراتيجي. ويؤكد "بن كيران" رئيس الحكومة المغربية والأمين العام لحزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي، أن الشعب لن يصوت لحزبه الإسلامي ليطبق منهجه الديني عليهم ولا لفرض الأسلحة على الدولة والمجتمع، إنما لحل مشاكلهم السياسية والاقتصادية، موضحاً أن المجتمعات الإسلامية ليست بحاجة إلى "الأسلحة" لأنها مجتمعات مسلمات تحيا بالإسلام تعاملاً وعبادة وشعائر وتشريعات، والحزب لن يضيف إلى إسلامهم وإيمانهم شيئاً. ويضيف: "لم نأتِ لنقول للرجال: التحوا وللنساء تحجبن"، مؤكداً أن منطق التدخل في خصوصيات الناس غير إسلامي.

الثانية: أما وجهة النظر الأخرى، فلا ترى قابلية الإسلاميين للتغيير لأن التنشئة الأيديولوجية على السمع والطاعة للمرشد، والتكوين الثقافي المغلق للإسلاميين، لا يسمحان لهم بأن يكونوا مرنين منفتحين على الآخرين، فالإسلاميون أيديولوجيون، والأيديولوجي- عامة- دكتاتوري بطبعه، والطبع يتغلب على التطبع، والحكم الأيديولوجي يهتم أولاً بتعزيز سلطانه وتوسيع صلاحياته والتمكين لجماعته أكثر من اهتمامه بقضايا شعبه. ومن هنا يرى المعارضون لحكم "الإخوان" في مصر أنه نسخة سنية من نظام (ولاية الفقيه) وأكثر استبداداً من نظام مبارك، ويؤكدون ذلك بعشرات المواقف للرئيس المصري محمد مرسي وسلوكيات "الإخوان" المتناقضة، إذ وعدوا بالمشاركة ثم سلكوا نقيضها، ومنذ تولي الرئيس المصري وهو يتخذ قرارات انفرادية صادمة للجماهير، أصدر إعلاناً دستورياً ليحصن قراراته ويمنع التعقيب عليها أو الطعن فيها قضائياً، ووضع دستوراً رفضته القوى الوطنية وقاطعه نصف الشعب، ورفض أحكاماً قضائية صادرة من المحكمة الدستورية العليا وتدخل في شؤون القضاء وفرض نائباً عاماً على القضاة بالتعدي على اختصاصاته، وهدد المعارضة ملوحاً باليد الحديدية، وظن أن التفويض الانتخابي يعطيه الحق في الاستبداد، لينزلق المشهد السياسي في مصر إلى سلطة "تهدد" ومعارضته "ما بنتهددش".  واصفاً القضية الدستورية بالكبيرة وبأن الدستور المصري يصنع "فرعوناً" جديداً، قال وحيد عبدالمجيد: إن الدستور يعطي الرئيس وضعاً فوق جميع سلطات الدولة الدستورية، ويمنحه سلطة مطلقة ليفعل ما يشاء عبر الاستفتاء العام. وحاصر "الإخوان" المحكمة الدستورية ومنع قضاتها من العمل، وشككوا في ذمة قضاة مصر وأرهبوهم وهم اليوم يطالبون بتطهير القضاة، ويتدخلون في شؤون الأزهر لتحجيم صلاحياته وفرض قيود على شيخه، ويسعون إلى خلق الحريات الإعلامية عبر جرجرة الإعلاميين إلى النيابة مما جعل الحليف الأميركي ينتقدهم، إضافة إلى استحواذهم على كل شيء من النقابات وحتى الرئاسة والبرلمان والشورى والحكومة.

وبسبب سياسية الانفراد بالقرار والاستحواذ على كل المؤسسات وإقصاء الآخرين وتخوينهم، أصبحت مصر تعيش حالة لا مثيل لها من الانقسامات والصراعات والفوضى والعنف، بحيث أصبح تدخل الجيش لإنقاذ البلاد وحماية أرواح العباد مطلباً شعبياً محلياً، وما هو حاصل في مصر حاصل في بقية دول الربيع، بدرجات مختلفة. وينتهي هؤلاء إلى أنه لا أمل في أن يتغير الإسلاميون ليكونوا براغماتيين مرنين مع القوى الوطنية في الداخل، وإن كانوا مضطرين لأن يكونوا براغماتيين مع الخارج ضماناً للدعم والمساعدة.

هذه خلاصة ورقتي المقدمة لندوة "حركات الإسلام السياسي: الثابت والمتحول في الرؤية والخطاب" ضمن فعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة في دورته الثامنة والعشرين في الرياض.

* كاتب قطري