«أداجيو» للمناسبة
* إلى عبدالستار ناصر
دخل علي خبر رحيلك بهيئة صرير باب يُفتح. أربك الصمتَ داخل البيت، وجعلني أفقد القدرة على الاستجابة. وقفتُ أمام شبح الماضي فبدا لي غائمَ الملامح. كيف أتبين ملامح ماضٍ مقطوعِ الجذرِ عن حاضري؟ وكيف أوصل حاضري الذي لا جذر له أصلاً؟ مددتُ كفيّ وجعلتُ الخبرَ ينهلُّ على راحتهما زيتاً داكناً، مسحتُ به وجهي طمعاً باستعادة يقظة أو نباهة. تعجّلتُ إلى رفوف الموسيقى باتجاه الخامسة لـ"مالر"، أنتخب منها حركتها الرابعة البطيئة "أداجيو". لقد اعتدت انتخابَ الحركات البطيئة كلما رحل صديقٌ مُقرّب، فنفدَ لديَّ كلُّ "أداجيو" مُقرّب في مكتبتي. ولقد خصصتُك بـ"أداجيو" مالر هذا، صدّقني. لأنه ينطوي على لحنِ محبةٍ افتقدها الموسيقي في سنوات عمره القصيرة المتأخرة. فالتطلّعُ والتوقُ واللهفةُ مع بدءِ الحركة البطيئة الذي تنسجه الوتريات في الأوركسترا، ويُقبل علينا معاً مُطعّماً بضربات كالنبض الحي على أوتار القيثارة، تُسهّل لديَّ الحوارَ معك. حوارُ ما بعد الرحيل. ففي زمنك الخالي من ترّهات الأيام تستعيد الكلمات عافيتها ومعانيها، ولا تعود مجعّدةَ البشرة بفعل التكرار. هذا الزمنُ الذي أشعر بأن ملمسه الناعم الآن يحتضن هواءَ الغرفة الساكن. نعم، مسستُ أصابعك كما اعتدت، حين أتحدث إليك. وقد أدهشني الدفءُ الذي فيها. قلت لك: إذنْ مضى نصفُ قرن على صداقتنا التي عقدت أواصرَها مع الغياب والفقدان. ولعلك الآن أكثر قدرةً على إنصافها. أعرف أنك عبثت بقدرك كثيراً، كما يعبث طفل بكرات خيوط ملونة، حتى أصبحت حولك شراكاً. ولكني أعرف أيضاً أن القدر لم يتعجّل الرد عليك فيعبث بك على هواه، لأنه يعرف عن يقين أن عبثك جوهر فيك، كعبث الأطفال تماماً. ولذلك الحقك بالجمع العراقي الذي راح يعبث به سنين طوالا. أنت تبتسم عن رضى! أعترف بأن الابتسامة التي تفشّتْ في ملامحك عصية عليّ، فقد اعتصر البلدُ الذي ننتسبُ إليه قلبي قبل أن يعتصره موتُك. حتى صرت أتأمل مراراتي كما أتأمل حيواناً غريباً على طاولة الكتابة. هل انتبهت للخفقة اللحنية التي اندفعت بها وترياتُ الموسيقي المُعذَّب فجأةً بصيغة تساؤل تضرّعي؟ أحسست أن خفقةَ التضرع هذه اندفعت منك، حتى انتفختْ لها ثنيّاتُ ردائك الأبيض الحريري، الفضفاض عليك. دعني أُعدُّ إذن كأسين احتفاءً بهذا اللقاء الفريد، داخل بالون الموت المُفرغ من الهواء. البالون العائم في زمن الأحياء المكتظ بالقتل المجّان، والإبادة المجّان.في المطبخ، وأنا أهمُّ باغتراف كأسين، رأيت عبر النافذة ثعلباً يخترق سور الحديقة الخلفية ويقف بالغ الاحتراس، بالغ الحذر. إضاءة المصباح الوحيد في العتمة توهجت في غمرة شعره الذهبي. كنتُ أريده أن يقترب. قطعت أنفاسي حذراً من استثارته. كيف يمكن لي أن أبقيه إلا باستكانتي إلى الصمت والسكون؟ وبقيت كذلك، حتى أنْستني الاستكانة رهافة انتظارك. كنت أجدُ انتزاع نفسي من شِباك الصمتِ والسكون، والعودةَ إليك أمراً عصياً عليّ. وحين عدتُ وجدتُك غادرت، لأنك لم تألف الانتظار. زمنك يسمو على زمن الأحياء بهذه الفضيلة. فالحياة لدينا لا تعدو عقاباً متواصلاً لحمته الانتظار وسداه الآمال. غادرت صديقي، ولم تترك حتى قصاصة ورق تقول فيها وداعاً. توقعتُ ذلك. وجلستُ مع كأس فارغة أتأمل غيابك. كان الكرسي الذي احتضنك يتوهج برداً. وباتجاهي يتوهج فأرتجف. صرتُ أشعر بكثافة العتمة على النافذة، وبكثافة الصفرة الباهتة للمصباح. خُيل لي أني عمود تلغراف في جادة تعصف فيها ريح. خُيل لي أن مئات السفن، يا صديقي، تتجه الليلة كحجر في هاوية، إلى قلبي. لمَ تبتعد بِحاراً وقارات، لتغادر بصمت؟ لمَ يُفضل العراقيون موتهم بهذه الطريقة على الدوام؟ يغادرون بهدوء وسكينةِ هذه الحركة الموسيقية البطيئة التي صارت أبطأ، وأخفض طبقة، حتى أنها تلاشت دون أن أنتبه. هل تعرف أنت لمَ؟