وجهة نظر: الخطوط الحمراء في تسوية القروض!
في الموقع الإلكتروني الرسمي لمجلس الأمة يمكن لك أن تطلع على عدة أهداف وتوصيات جميلة تطالب الحكومة بضرورة العمل على تنفيذ عملية إصلاح اقتصادي هيكلي في الكويت. ومن بين ما تطالب به تلك التوصيات «اتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لربط الأجر بالإنتاجية»، و«تقنين الإنفاق العام وترشيد الاستهلاك»، و«القضاء على مظاهر الهدر المالي»، و«التخلي عن مفهوم الرعاية الأبوية للدولة بحيث لا يكون الدعم إلا لمستحقيه».هذه التوصيات مدرجة في خلاصة الدراسات التي تبناها المجلس وأعدها مستشاروه، وهي على أية حال ليست من إبداعات هؤلاء المستشارين، الذين لا يمكن لمنصف أن يبخسهم حقهم في صحة تبنيهم لهذه الرؤى، ويمكن لك أن تجدها ذاتها في خطابات سمو الأمير، وفي ثيقة الإطار العام للتنمية الصادرة عن المجلس الأعلى للتخطيط، كما تجدها في وثيقة خطة التنمية الحالية، ووثائق الخطط السابقة، وبرامج العمل الحكومي المتعاقبة.
كما تجد هذه المطالب الإصلاحية في تقرير مكنزي الخاص باستراتيجية التحول إلى مركز تجاري ومالي إقليمي وعالمي، وفي تقرير توني بلير، وفي تقرير لجنة إصلاح المسار الاقتصادي، وفي عشرات الدراسات التي أعدها البنك الدولي واللجان المتخصصة في صندوق النقد الدولي عن الاقتصاد الكويتي منذ بداية الستينيات، كما تجدها في مذكرات غرفة التجارة والصناعة، وفي آلاف التوصيات التي صدرت عن عشرات بل مئات المؤتمرات والحلقات النقاشية التي خصصت لمناقشة اختلالات الوضع الاقتصادي الكويتي على مدى العقود الثلاثة الماضية.القرض الحسناللجنة المالية بمجلس الأمة خرجت عن سياق كل هذه الدراسات والتوصيات الإصلاحية، وتوصلت إلى ما أسمته رؤية توافقية مع وزير المالية لمعالجة فوائد القروض الاستهلاكية والمقسطة التي منحت ما بين عامي 2002 و2008، تدفع الدولة بموجبها كل القروض إلى البنوك فتسقط فوائدها تلقائياً، ثم تعيد جدولة القرض بما يشبه «القرض الحسن» على حد تعبير رئيس اللجنة.ولأن هذه الرؤية لا تحقق العدالة كما يقر أعضاء اللجنة المالية أنفسهم، أوصت اللجنة بأن يتم صرف ألف دينار لكل مواطن لم يستفد من هذه المعالجة، تستخدم في سداد التزاماته تجاه الدولة، ورأت اللجنة أن الألف دينار هذه سيستفيد منها المواطن بصرف النظر عن كونه معوزاً محدود الدخل أو ميسوراً من أصحاب الملايين. كما رأت أنها، أي الألف دينار، تحقق العدالة بين المقترض المستفيد من التسوية وبين غير المقترض أو غير المستفيد من التسوية. تفسير غير مسبوقولا شك أن تفسير العدالة على هذا النحو يشكل سابقة تاريخية، إن لم أقل بدعة. وفي الحقيقة فإن معضلة التسوية المطروحة تكمن في بعدها التام عن مفهوم العدالة الاجتماعية، التي ينظر إليها الدستور، في مادته السابعة، بوصفها إحدى أهم دعامات المجتمع. وهي أي التسوية لا تحقق العدالة لا بين المقترضين وغير المقترضين فحسب، بل لا تحققها بين شرائح المقترضين أنفسهم، وهي أبعد ما تكون عن إعطاء كل ذي حق حقه. ومن الواضح أنها تسوية مثقلة بجرعة سياسية شعبوية عالية، تتخطى كل المبادئ والخطوط الحمراء بما فيها المصلحة العامة وتكافؤ الفرص، بل ومستقبل الأجيال القادمة، ولن ينتج عنها سوى المزيد من عدم الالتزام بالقواعد والقوانين، وتشجيع ظاهرة الاستهلاك غير الرشيد. الحل الأمثل الذي يتوافق مع مسار تنموي حقيقي، لا يأتي من خلال الجرعات المالية الوقتية، فهذه أشبه بالمسكنات التي تهدئ أعراض المرض ولكنها لا تعالجه، وغالباً ما تزيد من حدته، لكنه يأتي من خلال الحرص على تفعيل القوانين، وتحسين مستوى الخدمات العامة وبناء المرافق والبنى التحتية الحديثة وخلق فرص العمل المنتجة، وإعادة توزيع الدخل من خلال توسعة وتعزيز شبكة الرعاية الاجتماعية من أجل تمكين شرائح المواطنين من أصحاب الدخول المنخفضة من توفير مستوى معيشي لائق.وهذا كله في واد واللجنة المالية في واد آخر.*أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت