قال بصوت يشي بحزنه: "ما عدت أكتب" اندس الصمت بيننا لثوانٍ قبل أن يضيف: "أنا أعيش متفرجاً على قاهرة ما كنت أتخيلها!" وحين انتهت مكالمتي مع صديقي الروائي المصري، دار ببالي السؤال: "ما الذي فعلته ثورات الربيع العربي بالكاتب العربي؟".

Ad

الكثير من الكتّاب العرب، روائيين وقصاصين وشعراء وفنانين تشكيليين ومسرحيين ونقّاد، جعلتهم الثورات العربية في بلدانهم يفتحون أعينهم على اتساعها، ليبحلقوا في واقع جديد، يهدر من حولهم، معجون بالعنف ومصطبغ بلون الدم، ونادب على درب تشيّع نعوشٍ لا نهاية له.

الكثير من الكتّاب والمثقفين العرب، أوقف الربيع العربي مداد أقلامهم. أفقد بعضهم أقرب أحبته، وجعل بعضاً آخر يفكر بالهرب إلى ملجأ حياة، وترك قسماً ثالثاً شارد الفكر يعيش يوماً مخيفاً، ويتوقع لحظات قادمة أكثر ظلاماً ورهبة!

الكتّاب والفنانون مع الحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان والعدالة ومع السلام والمحبة، ولهذا هم مع ثورات الشعوب السلمية العربية العظيمة. لكن ثورات الربيع العربي لم تثمر بساتين زهور، بل زادت من مقابر الشعوب العربية، ولم تكن ثورات الربيع العربي ثورات ربيع، لكنها ثورات خريف مليء بالرعود والقصف والعواصف، أزاحت طواغيت وقتلة وأنظمة فاسدة، لكنها جاءت بأحزاب دينية متعصبة وضيقة النظر لما يدور حولها وفي العالم، تنظر إلى الثقافة والفنون بمنظار المنع والتحريم!

عددٌ كبير من الكتّاب والفنانين لاذوا بالصمت، واستعانوا على تحمل الوجع بالقراءة. ولأنه زمن عنف أعمى وحرب مجنونة، فهو يتطلب قراءات خاصة تقدم زاداً وعزاءً للروح. ومؤكد أن قراءة أي من أعمال الروائي صاحب نوبل "1998"، البرتغالي جوزيه دي سوزا ساراماغو (José de Sousa Saramago)، (1922-2010)، تأخذ القارئ إلى رحاب عالم مترام، يتمركز حول حياة الإنسان، ويغوص في التفاصيل اليومية البسيطة، التي تتكون منها لحظات أعمارنا.

رواية "الكهف" الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة الجوائز (49) بترجمة صالح علماني، تمثل عالم ساراماغو الروائي كأصدق وأدق ما يكون، إن على مستوى لعبة الراوي أو اللغة أو شكل الكتابة، مثلما تقدم حكاية جديدة متجددة. وقبل هذا وبعده، تقول كيف أن قراءة رواية لساراماغو تعني سياحة في فكر وقناعات أحد أهم مفكري وكتّاب القرن العشرين. كاتب لا يشبه إلا نفسه، ولا يمكن تقليده بنسخة أخرى. فكثير من الكتّاب أمكن مجاراة أساليبهم في الكتابة، إلا أن هناك قلة قليلة لا يمكن لأحد أن يقلد طريقتهم في الكتابة، لأنها بالأساس ترتبط بطريقة تفكيرهم.

ساراماغو، ابن مزارع فقير، بدأ حياته صانعاً للأقفال ثم صحافياً ومترجماً، نشر روايته الأولى "أرض الخطيئة" عام 1947، ليتوقف بعدها عن الكتابة لمدة تقارب العشرين عاماً، قبل أن يعود بإصدار ديوانه الشعري الأول "قصائد محتملة" عام 1966، وبعدها أبهر العالم بعبقريته!

ساراماغو في "الكهف" يقدم حكاية خزّاف يعيش مع ابنته وزوجها في قرية، يعتاش على بيع الآنية والأطباق لمركز تجاري كبير، لكن المركز يخبره بتوقف تعامله معه، مما يدخل الخزاف في مأزق، خاصة وأن ابنته وزوجها الذي يعمل حارساً في المركز، على وشك ترك القرية والانتقال للعيش في شقة يؤمنها المركز للمستخدمين، وهما يحثانه على الانتقال والعيش معهما.

إن اعتياد أحدنا على عملٍ بعينه وأسلوب عيشٍ لسنوات وعقود، يجعل من خبر توقفه هزة مزلزلة، تتطلب منه أن يعيد رؤية كل ما يحيط به، وكم هو صعب ومهلك ذلك. "الأمل أمر لا يمكن الثقة به أبداً، هذا ما أفكر فيه، ولكن ماذا نفعل، علينا التمسك بشيء ما في ساعات النحس ص131"

"الكهف" متعة قراءة خالصة!