عبَرَ عهد بوتين المتجدد منعطفاً مهماً، ما دفع بالبلاد نحو المزيد من الاستبداد والقمع، فبدل المضي قدماً في استراتيجية التحرر والديمقراطية التدريجية التي طُبّقت خلال ولاية ديميتري ميدفيديف الثانية، اختار الرئيس فلاديمير بوتين أسوأ الخيارات. فلم يقرر العودة إلى سدة الرئاسة فحسب، بل ألغى أيضاً الكثير من التقدّم الذي حققه ميدفيديف وشن حملة قمع ضد قوى المعارضة.

Ad

أثار إعلان بوتين في سبتمبر عام 2011 رغبته في الفوز بولاية رئاسية ثالثة الكثير من التحديات، فنفّر القوى السياسية المختلفة وأشعل تظاهرات في عدد من مناطق البلاد بعد تصويت مجلس الدوما في ديسمبر عام 2011، وشعر جيل الشباب ذو التوجهات الليبرالية أن الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف خانهم برفضه تحدي بوتين. من الأسباب التي دفعت ببوتين إلى تبني خطّ أكثر استبداداً في ولايته الثالثة خوفه من أن ميدفيديف شكّل محوراً مع الغرب خلال رئاسته قد يقوّض مصداقية روسيا العالمية وسلطة بوتين في الداخل.

بعد العودة إلى الكرملين عام 2012، كان أمام بوتين خيار مواصلة البرامج الليبرالية التي أطلقها ميدفيديف، لكن بوتين اختار في المقابل قمع المعارضة والمجتمع المدني، في البداية، اقتصر هذا القمع على السلوك السياسي الذي اعتبره بوتين مرفوضاً، حتى إن بعض التدابير التي اعتمدها ظلّت ضمن إطار الممارسات الديمقراطية الغربية.

لكن بوتين تبنى السنة الماضية سلسلة كاملة من القوانين القمعية دفعت بروسيا نحو عهد من الاستبداد المستشري، ما أبعد البلاد عن شكل النظام الاستبدادي الناعم الذي اعتمده بوتين خلال ولايتَيه الأوليين. فقد جرّم مجلس الدوما، بدعم من بوتين، الخطابات التي "تهين" المؤمنين المتدينين، كذلك تعرضت حرية التعبير لقيود إضافية مع سنّ قوانين جديدة تضمنت تعريفات شاملة للإهانة و"دعاية المثليين الجنسيين". قد يعترض البعض، مدّعين أن استطلاعات الرأي تؤكّد تأييد الشعب خطوات مماثلة، ولكن يجب ألا ينسى هؤلاء هيمنة النظام في عالم وسائل الإعلام، خصوصاً التلفزيون، فقد أكملت حملات وسائل الإعلام ضد الصحافيين المستقلين صورة مناخ يزداد صمتاً، ما يهدد بسحق حرية التعبير.

لا بد من الإشارة إلى أن الغرب يتحمل بعض اللوم على عودة بوتين إلى حكم أكثر استبداداً، وذلك لسببين: أولاً، كان من المفترض أن تعرب إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما عن دعم أكبر لبرامج ميدفيديف الليبرالية، ما كان سيجعل بوتين مساهماً أكبر على الأرجح في حملة ميدفيديف الليبرالية، لكن إدارة أوباما آثرت الصمت في معظم الأحيان بشأن التطورات السياسية المحلية في روسيا.

ثانياً، نشأت معضلة كبيرة عندما قرر ميدفيديف الامتناع عن التصويت (بدل استخدام حق النقض) بشأن قرار مجلس الأمن في الأمم المتحدة إقامة منطقة حظر جوي في ليبيا، خطوة خالف فيها على الأرجح إرادة بوتين. ومن الواضح أن تدخل حلف شمال الأطلسي عسكرياً في ليبيا لاحقاً شكّل انتهاكًا لروح (إن لم نقل لنص) قرار مجلس الأمن. فوضع تلاعب الغرب بقرار مجلس الأمن روسيا في موضع حرج وفاقم مخاوف بوتين بشأن حركة ميدفيديف الإصلاحية المتنامية وتوجهه نحو الغرب، وربما خشي أن يؤدي محور ميدفيديف-الغرب إلى تقويض مصداقية روسيا على المسرح العالمي، فضلاً عن سلطة بوتين في الداخل.

لكن بوتين يتحمل الجزء الأكبر من اللوم على هذه العودة إلى الحكم المستبد، عندما بالغ في ردّ فعله تجاه السيناريو الليبي والتظاهرات في شوارع موسكو. لا تعتبر القيادة التظاهرات السياسية ردّ فعل طبيعياً تجاه هفواتها الخاصة، بل جزءاً من خطة غربية لتفكيك روسيا.

صحيح أن بوتين تبنّى عدداً من المبادرات المحدودة التي يمكن وصفها بالليبرالية، مثل حملته ضد الفساد والعفو عن آلاف السجناء المدانين بتهم تتعلق بالتجارة والأعمال، إلا أن التحرر الاقتصادي غير الكافي وتعزيز الحكم المستبد وضعا روسيا على مسار خطر نحو التفكك. مع تنامي القدرة على استخدام الإنترنت وفجوة النمو والتقّدم في روسيا، من المرجح أن تشتد المعارضة، متخذة حجماً خطراً في العقد المقبل. ولا شك أن هذا سيضع بوتين في موقف حرج يرغمه على تبنّي حل من اثنين: الانهيار السياسي أو حملة أشدّ قسوة من القمع السياسي. حظي بوتين بفرصة الرحيل من السلطة بكرامة وبخلفٍ كان سيمنحه على الأرجح إرثاً إيجابياً... لكن هذه الفرصة ولّت اليوم إلى غير رجعة.

Gordon Hahn

* باحث بارز في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في برنامج روسيا وأوراسيا في واشنطن، وهو مؤلف Russia’s Revolution From Above وRussia’s Islamic Threat.