الوجه الإيجابي لعالم تتراجع فيه الهيمنة الأميركية

نشر في 22-10-2013
آخر تحديث 22-10-2013 | 00:01
في عام 2011، شهدنا لعبة الانتظار حتى اللحظة الأخيرة نفسها لرفع سقف الدين في الكونغرس، فراح العالم مرة أخرى يراقب الطبقة السياسية الأميركية تقحم نفسها في فقاعة مغلقة من الغباء والعجرفة، متجاهلة في الوقت عينه تأثير هذا الفقاعة المؤذي في مكانتها والنظام المالية العالمي.
 ذي أتلانتك بلغت الموجة الأخيرة من السلوك العبثي في الولايات المتحدة نهايته في الوقت الراهن، صحيح أن هذا الجدال حُل على الأمد القريب، إلا أنه سيتواصل بالتأكيد، خصوصاً أن التسوية بشأن الدين ستنتهي في شهر فبراير. أدت كل هذه التطورات إلى تسريع موجة كانت تزداد زخماً خلال السنوات الخمس الماضية على أقل تقدير: الابتعاد عن عالم يتمحور حول واشنطن نحو نظام عالمي جديد غير محدد، إلا أن الطابع الأميركي فيه سيكون محدوداً بالتأكيد.

تجلى الهجوم الأخير في افتتاحية وكالة الأنباء الرسمية الصينية "شينخوا"، التي توزع على نطاق واسع، فقد دعت إلى "عالم لا يتمحور حول الولايات المتحدة"، لا يعتمد على الدولار، ولا يخضع بالتالي لنزوات "الاضطراب السياسي الداخلي المحتدم في الولايات المتحدة". جاءت هذه الافتتاحية في أعقاب مقال فلاديمير بوتين في صحيفة "نيويورك تايمز"، الذي تحدى فيه ميل الولايات المتحدة إلى اعتبار نفسها أمة مميزة لا غنى عنها. واستخلص بوتين: "من الخطر جداً تشجيع الشعب على اعتبار نفسه مميزاً، بغض النظر عن الدافع".

يجب ألا نتغاضى عن محتوى هذين الانتقادين القويين لمكانة الولايات المتحدة في العالم لمجرد أنهما صدرا عن عدوينا التاريخيين. صحيح أن دوافع هذين الانتقادين سياسية، وأنهما موجهان إلى القراء المحليين والدوليين الذين يؤيدون كل مَن يتجرأ على التصدي للأميركيين "الأشرار"، ولكن حتى العدو الخبيث يصدق أحياناً في ملاحظاته، وفي كلا الانتقادين كانت الرسالة نفسها: قد تكون الولايات المتحدة دولة قوية تسيطر على احتياطي العملة العالمي وتملك القوة العسكرية الأكبر، إلا أن هذا لا يعني أنها القائد العالمي، أو رجل الشرطة في العالم، أو أي شيء غير الدولة الأولى بين مجموعة دولة مساوية لها.

رغم كل حماسة حركة "حفلات الشاي" وقلق الطبقة الوسطى، لا يزال الأميركيون متمسكين برواية مطمئنة عن أن الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم. ولعل الأمر الإيجابي الوحيد الذي قد يسفر عن هذه الفوضى الراهنة أنها ستقربنا من كشف حقيقة هذه الخرافة القديمة.

حررت الأزمة المالية عام 2008 سائر العالم من وهم أن الولايات المتحدة، مهما كانت حدودها، تبقى أكثر تفوقا بأشواط في قدرتها على التلاعب بعجلة الشؤون المالية والرأسمالية. فطوال فترة، استمتع سكان الاتحاد الأوروبي بتوبيخ الأميركيين بشأن عشقهم للمشتقات المالية والرهون، إلى أن غرق الاتحاد الأوروبي بحد ذاته في الفوضى عام 2010. وهكذا اتضح أن الولايات المتحدة لم تكن الأمة المتفوقة التي ظنها العالم، وأنها كانت تقدم نصائح واهية. وتبين في النهاية أنها هي أيضاً عرضة للمضاربات وإخفاقات الأنظمة.

شكل خروج العالم "الناشئ" من أزمة عام 2008 بحالة مالية أفضل ضربة قوية للمركزية الأميركية، فقد صمدت الدول التي تعلمت دروساً مالية صعبة خلال الأزمات الإقليمية الماضية، مثل أميركا اللاتينية في سبعينيات القرن الماضي ودول شرق آسيا في التسعينيات، خلال الأزمة المالية وخرجت أفضل حالاً مقارنة بالولايات المتحدة وأوروبا. وبعد أن أدركت أنها تتخطى العاصفة بنجاح، صارت هذه الدول أكثر جرأة في التعبير عن انتقادها الولايات المتحدة وتشكيكها بها.

فبينما تبنت الولايات المتحدة سياسة تقوم على المال السهل والمعدلات المنخفضة لتدعم نظامها الاقتصادي المتداعي، ندد كثيرون في العالم النامي بهذه الخطوة واتهموا الولايات المتحدة بخوضها حرب عملة. فعندما سافر الرئيس الأميركي باراك أوباما عام 2010 إلى سيول ليشارك في قمة مجموعة العشرين، لم يحظَ بالاحترام الذي اعتاده قادة الاقتصاد الأكبر في العالم، بل واجه سيلاً من الوعظ وحتى التنديد. فحض نائب وزير الخارجية الصيني الولايات المتحدة على "إدراك مسؤوليتها وواجبها كدولة تصدر عملة مهمة، وعلى تبني سياسات اقتصادية كلية مسؤولة". أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فبدت أكثر دبلوماسية، إلا أنها لم تتردد في رفض دعوات الولايات المتحدة إلى الحد من التقشف.

في عام 2011، شهدنا لعبة الانتظار حتى اللحظة الأخيرة نفسها لرفع سقف الدين في الكونغرس، فراح العالم مرة أخرى يراقب الطبقة السياسية الأميركية تقحم نفسها في فقاعة مغلقة من الغباء والعجرفة، متجاهلة في الوقت عينه تأثير هذه الفقاعة المؤذي لمكانتها وللنظام المالي العالمي. قد نعزو مرحلة واحدة من الغباء الذي يكاد يبلغ حد الجنون إلى لحظة طيش عابرة، ولكن يبدو أننا نشهد نمطاً متكرراً مع حدوث ذلك مرتين في غضون سنتين.

يُعتبر هذا التراجع عموماً سلبياً، إلا أنه يعود بفائدة كبيرة على الولايات المتحدة. فيتيح أمامها فرصة تحتاج إليها بإلحاح لتصب كل اهتمامها على معالجة المسائل الداخلية، مثل مستقبل توليد فرص العمل وطبيعة النمو الاقتصادي خلال العقود المقبلة (صحيح أن هذه الأزمة لن تحل القضايا الداخلية، لكن هذا الحل قد يأتي في أعقابها). تواجه الولايات المتحدة الكثير من القضايا التي تحتاج إلى حل. ويضم العالم اليوم الكثير من مراكز القوة الناشئة، ما يرغم الولايات المتحدة على حلها.

تُعتبر إعادة الاصطفاف، التي تحدث اليوم، سلوكية بقدر ما هي بنيوية، ونظراً إلى حجم هذه المسألة ونطاقها، فسنشهد تداعيات عالمية بارزة، إذا لم تعد الدول تنظر إلى الولايات المتحدة كقائد، ففي عالم يضم مراكز نفوذ كثيرة، من الصين إلى أميركيا اللاتينية فالهند وإفريقيا السوداء، سيولد لاعبون جدد يتحملون جزءاً أكبر من المسؤولية الإقليمية والعالمية بمرور الوقت مستقبلاً أكثر استقراراً. ندرك هذا الواقع منذ زمن، وهذا ما يؤكده الدور الذي أدته الأمم المتحدة والهيئات الدولية الأخرى في بعض المراحل. واليوم، مع تراجع قوة الولايات المتحدة نسبياً، قد نبدأ على الأرجح بتأسيس نظام دولي حقيقي. لا شك أن هذا النظام سيواجه تحدياته الخاصة، إلا أنه سيكون أقل اعتماداً على دولة واحدة.

المفارقة، إذن، أن ما نواجهه اليوم بسبب أزمة الدين يُعتبر هبة. فبينما يقف العالم متفاجئاً ومذهولاً، تنهمك الولايات المتحدة في معالجة شؤونها الداخلية. يبدو كثيرون محقين في قلقهم من أن يؤدي تهور الطبقة السياسية عاجلاً أو آجلاً إلى أزمة اقتصادية عالمية، لكن الأكثر احتمالاً السيناريو الأسوأ حين نشهد أزمة وجيزة تقوض مكانة الولايات المتحدة كلاعب عالمي. لكن هذا الدور الأميركي يبقى، رغم تراجعه، أكثر نفوذاً من 100 سوق ناشئة، إلا أنه سيعزز التركيز على الشؤون الداخلية في الولايات المتحدة. وعلينا الانتظار لنرى ما إذا كان القادة والسياسيون سيحسنون استغلال هذه الفرصة أو لا، ولكن بغض النظر عن ذلك، تبقى هذه فرصة، وفرصة جيدة بالتأكيد.

Zachary Karabell

back to top