أخطر ما في جريمة "الريحانية" هي أنها جاءت كبداية لانتقال هذا النظام السوري من التهديد بنقل حرائق سورية إلى الدول المجاورة إلى التنفيذ الفعلي لهذه السياسة والمتوقع ألا تقف الأمور عند هذا الحد، وهذا يعني أنه على الأردن أولاً وقبل غيره أن يعلن حالة الاستنفار القصوى، وأن يستعيد لياقته الأمنية المعروفة بسرعة وبدون أي تأخير وعلى أساس المثل القائل: "من مأمنه يؤتى الحذر" ولأنه سيكون مقتلاً فعلياً وحقيقياً الاطمئنان لنظام كانت قد أرسيت أركانه على "الغدر" وتصفية المعارضين جسدياً، ويعتبر أن حسن الصباح صاحب قلعة "الموت" ومطلق فرق "الحشاشين" الشهيرة مثله الأعلى.

Ad

في بدايات ثمانينيات القرن الماضي، وهذا يقال للمرة الأولى، كان حافظ الأسد يخشى من ذهاب الأردن إلى حل للصراع في الشرق الأوسط خارج الدائرة السورية، فبادر بعد ضمان عدم ذهاب منظمة التحرير إلى مثل هذا الحل إلى حوار سوري- فلسطيني شارك فيه عن الجانب السوري كل من عبدالحليم خدام وحكمت الشهابي، الذي توفي في الولايات المتحدة قبل أسابيع قليلة، وعن الجانب الفلسطيني صلاح خلف "أبو إياد" ونمر صالح "أبو صالح" رحمهما الله، وكان البند الوحيد الذي أصر الوفد على إدراجه على جدول أعمال ذلك الحوار "الاستراتيجي" هو الطلب من الفلسطينيين القيام بتفجيرات واغتيالات في الأردن بهدف منع الملك حسين من الالتحاق بـ"كامب ديفيد" وخروجه على معادلة أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام بدون أن يكون بقيادة سورية.

وبالطبع فإن الوفد الفلسطيني قد رفض هذا الطلب السوري الآنف الذكر رفضاً مطلقاً، وقد تدخل "أبو عمار" شخصياً لسحب بيان كانت الأجهزة السورية قد وزعته على بعض صحف بيروت الغربية اللبنانية وكان يحمل وجهة النظر التي طرحها الجانب السوري في جولات ذلك الحوار "الاستراتيجي"!، وكان يتضمن هجوماً عنيفاً على الأردن والسياسات الأردنية، والحقيقة أن هذا الموقف الفلسطيني لم يكن مستغرباً لأن الفلسطينيين، باستثناء المنظمات المعروفة التابعة للمخابرات السورية، كان أكثر ما يخشونه هو الوقوع في قبضة حافظ الأسد الذي كان قد دخل لبنان بالقوة العسكرية بهدف السيطرة على القرار الوطني الفلسطيني إلى جانب أهداف أخرى كثيرة معروفة لا ضرورة لتكرار ذكرها.

وهكذا فإن جريمة "الريحانية" لا يمكن فهمها إلا على أنها بداية فعلية لحرب نقل حرائق سورية إلى الدول المجاورة، فنظام كان بادر إلى تصفية خصومه من قادة حزب البعث نفسه، ومن بين هؤلاء محمد عمران الذي اغتيل في طرابلس اللبنانية في عام 1972 وصلاح البيطار الذي اغتيل في باريس، بالإضافة الى الذين أذيبت أرواحهم وأعمارهم وأجسادهم في زنازين سجن المزة الشهير وأيضاً بالإضافة إلى عبدالكريم الجندي الذي كان خامس أعضاء اللجنة العسكرية الشهيرة التي تشكلت في القاهرة خلال فترة الوحدة المصرية- السورية، والتي كانت تضم بالإضافة إليه محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد وأحمد أمير، لا يمكن أن يتورع عن فعل كل ما هو غير معقول وغير مقبول.

إن هذه العقلية التي تستند في التعامل مع المناوئين والخصوم إلى تجربة حسن الصباح وقلعة "الموت" وفرق "الحشاشين"، هذه التجربة التي شكلت نقطة سوداء في التاريخ العربي والإسلامي هي التي تعاملت مع لبنان لترويضه وإخضاعه وإلحاقه بالسياسات السورية، بالاغتيالات، من اغتيال كمال جنبلاط إلى اغتيال بشير الجميل ورينيه معوض وحسن خالد وصبحي الصالح ورياض طه وكل تلك السلسلة الطويلة حتى اغتيال رفيق الحريري وجورج حاوي وسمير قصير وجبران تويني وغيرهم.

إنه من غير الممكن أن تكون جريمة "الريحانية" مجرد حدث عابر، فهي جاءت في إطار منعطف سياسي هام بالنسبة للأزمة، وهي جاءت بينما التحولات السورية الداخلية باتت تأخذ أبعاداً جدية لإنهاء هذا النظام، وهذا يعني أنها بداية حلقة جديدة في دوامة العنف التي كان بدأها النظام في مارس (آذار) عام 2011، وإنه عندما كان بشار الأسد يقول مراراً إن الحرائق المندلعة في سورية ستنتقل إلى الدول المجاورة فإن على دول الجوار هذه ألا تبقى نائمة على أرائك من ريش النعام، وإن عليها ألا تبقى تتلطى بما تسميه "الحياد"، وهي ترى كل هذا الذي يجري في المنطقة وتسمع كل هذه التهديدات المتصاعدة المتلاحقة التي تنطلق من دمشق!