«نشاز العالم» بديل عن «تناغم أوروبا»!

نشر في 28-02-2013
آخر تحديث 28-02-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت في رائعته بعنوان "الدبلوماسية"، يصف هنري كيسنجر، وربما بأسلوب رعوي أهدأ مما ينبغي، نظام توازن القوى الدولي الذي أَنتج في أعقاب مؤتمر فيينا في 1814-1815 ما أصبح يطلق عليه وصف "التناغم الأوروبي". وكما يصف كيسنجر الأمر، فبعد حروب نابليون، "لم يكن التوازن الناشئ مادياً فحسب، بل كان أخلاقياً أيضاً. فقد كان التناغم بين القوة والعدالة كبيراً". لا شك أن التناغم انتهى إلى نشاز باندلاع الحرب العالمية الأولى في صيف عام 1914.

واليوم، بعد الوحشية التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين، والثنائية القطبية المؤقتة أثناء الحرب الباردة، والمكانة التي اكتسبتها الولايات المتحدة لفترة وجيزة في أعقاب عام 1989 كقوة عظمى عالمية وحيدة، يبحث العالم مرة أخرى عن نظام دولي جديد. تُرى هل من الممكن تعميم مبدأ مثل "تناغم أوروبا" على مستوى العالم؟

من المؤسف أن النشاز العالمي يبدو أكثر احتمالاً. وأحد الأسباب الواضحة هو غياب حَكَم دولي معترف به ومقبول. فالولايات المتحدة التي تُعَد أفضل تجسيد للقوة المطلقة، أقل استعداداً -وأقل قدرة- على الاضطلاع بهذا الدور. والأمم المتحدة، التي تُعَد أفضل تجسيد لمبادئ النظام الدولي، منقسمة وعاجزة كحالها دائماً.

ولكن إذا تجاوزنا مسألة غياب الحَكَم، فهناك مسألة أخرى تلوح في الأفق؛ فقد عملت موجة العولمة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، وعلى نحو لا يخلو من المفارقة، على التعجيل بعملية التفتت التي أثرت في الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء. فمن انهيار الاتحاد السوفياتي، والتدمير الذاتي الذي مزق يوغوسلافيا، وانفصال تشيكوسلوفاكيا سلمياً، إلى القوى الطاردة المركزية في أوروبا والغرب والدول الناشئة الكبرى، كان التفتت والانقسام أساسياً في العلاقات الدولية في العقود الأخيرة.

لقد أسهمت ثورة المعلومات في خلق عالم أكثر شفافية وأكثر ميلاً إلى الارتباط المتبادل بين أجزائه المختلفة مقارنة بأي وقت مضى. ولكن هذا أدى بدوره إلى سعي حثيث إلى البلقنة وتخصيص الهوية. والواقع أن هذه الجهود الرامية إلى استعادة التفرد ترجع في أغلبها إلى الانقسام المتزايد الذي بات يميز النظام الدولي.

في زمن "تناغم أوروبا"، كان عدد الجهات الفاعلة محدوداً، وكانت دولاً في الأغلب، سواء وطنية أو إمبراطورية. وكانت القيم الأساسية مشتركة على نطاق واسع، كما كانت أغلب الجهات الفاعلة تفضل حماية النظام القائم. أما في عالم اليوم، فإن طبيعة الجهات الفاعلة المشاركة لم تعد بهذا القدر من الوضوح. فالآن تشارك قوى عبر وطنية، ودول، وجهات لا تنتمي إلى دول بعينها، وأهداف الجميع معقدة ومتضاربة في بعض الأحيان، ولا يوجد التزام عالمي بالحفاظ على الوضع الراهن.

قد تكون الولايات المتحدة عازمة على خلق تحالف تجاري واستثماري عبر أطلسي مع أوروبا، وهو ما من شأنه أن يقدم بياناً سياسياً للعالم مفاده أن الغرب ككل يشكل نقطة المرجعية المعيارية العالمية. ولكن أهذه حال الغرب حقاً؟ في عصر الانقسام الذي نعيشه اليوم، هناك الغرب الأميركي الأكثر قوة وديناميكية، والغرب الأوروبي الأكثر إشكالية على مستوى العالم (والذي ينقسم هو ذاته على نفسه بين الشمال المزدهر والجنوب المتأخر اقتصادياً)، بل وحتى الغرب البريطاني، والغرب الآسيوي في اليابان.

ولعل مفهوم مجموعة "البريكس" (البرازيل، وروسيا، والهند، والصين) كان بمنزلة أداة توصيف تجاري بارعة. ولكن بعيداً عن معدلات النمو المرتفعة لدى دول المجموعة، فهل كانت أي منها تمثل أهمية حقيقية؟ الواقع أن الصين تنتمي إلى فئة فريدة من نوعها، بوصفها مصدراً متوهماً (أو حقيقياً) للخطر بالنسبة الى بيئة الدول المجاورة لها. وإذا تباطأ نمو مجموعة "البريكس" (وهو ما بدأ بالفعل)، فإن سطحية هذا المفهوم ستصبح واضحة على نطاق واسع. إن ما يوحد القوى الناشئة اليوم ليس الجهود الدبلوماسية المشتركة بقدر ما يوحدها إنكارها للمسؤوليات الدولية.

وتؤثر حالة الانقسام والتشظي أيضاً على المجتمعات داخلياً. فالانقسامات الحزبية العميقة -سواء كانت حول الدور الذي تلعبه الحكومة أو القضايا الاجتماعية/الثقافية- تدفع الأمور إلى حالة أشبه بالشلل في المجتمعات الديمقراطية مثل الولايات المتحدة. وفي المجتمعات غير الديمقراطية، قد تؤدي الانقسامات إلى الثورة والصراعات العنيفة على السلطة. وكانت هذه هي الحال في قسم كبير من العالم العربي منذ عام 2010.

وحتى القوة ذاتها أصبحت مجزأة أكثر من أي وقت مضى. بل إن مويزيس نعيم يعلن زوالها في كتابه الأخير "نهاية القوة: من مجالس الإدارات إلى ساحات القتال ومن الكنائس إلى الدول، لماذا لم يعد كون المرء متحكماً في الأمور على حاله الذي عهدناه من قبل". ورغم أن الاستنتاج الذي توصل إليه نعيم ربما كان سابقاً لأوانه، فإنه محق بشأن أمر واحد: "فالقوة لم تعد قادرة على شراء ما كان يمكن شراؤه بها في الماضي، وأصبح استخدامها أكثر صعوبة- وخسارتها أسهل".

يزعم بعض المحللين، على نحو يدعو إلى الطمأنينة، أن التقارب بين آسيا والغرب أمر ممكن، نظراً للتعايش بين الديمقراطية الغربية والكونفوشيوسية الاستبدادية. وهي الحجة التي ساقها كيشور محبوباني في كتابه "التلاحم العظيم". ولكن التناغم النابع من تلاقي الحضارات والأنظمة المختلفة ليس قريباً بأي حال- ولن يكون ما دامت سيادة القانون لم تترسخ بعد في العالم الناشئ ولم تتقدم ثقافة التواضع داخل الغرب التعددي.

لقد حَلَّ "نشاز العالم" محل "تناغم أوروبا"... وقد تظل هذه الحال قائمة في المستقبل المنظور.

* دومينيك مويزي | Dominique Moisi ، أستاذ في معهد الدراسات السياسية في باريس، وكبير مستشاري المعهد الفرنسي للشؤون الدولية، وأستاذ زائر لدى كلية كينغز في لندن.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top