أمضوا الساعات المتقدمة من الليل في ضيافة قريبهم الذي كان يسكن بعيداً عن القرية بنحو مسير نصف ساعة نحو الغرب، في بيت شعر كان يغرق في تلك الليلة القائضة من شهر "صفر" في ظلام دامس. كان بيت الشعر يتوسط "مرجاً" مربوع الاتساع، وكانت الأشجار الحرجية التي تزنر "المرج" تبدو أكبر من حجمها بمرات عدة.
في تلك الليلة المظلمة العابسة أمضى الضيوف، الذين كانوا جاءوا إلى قرية الآباء والأجداد من مدينة الزرقاء، وأهل البيت الساعات التي قضوها معاً في الربع الأول من الليل بدون إنارة، فـ"كاز" القنديل الوحيد كان قد نضب منذ عدة أيام ولم يكن ممكناً تعويض ما نضب منه إلا بالذهاب، إما سيراً على الأقدام أو على ظهور الدواب، إلى جرش التي هي أقرب مدينة إلى هذه المنطقة.دار الحديث الذي تداوله الضيوف وأهل البيت حول قضايا متعددة، وكان ذلك الحديث "حديث قرايا"، كما يقال، وحديث القرايا في تلك الأيام من بدايات عقد الخمسينيات كان يتركز على المواسم وعلى بطولات العشائر والقبائل وغزواتها وأيامها... وكان هناك مجال باستمرار للتفاخر والتباهي والاستغابة والكذب والمبالغة.بحث الضيوف بين أردية العتمة وجحافل الظلام عن أحذيتهم... دعاهم قريبهم الكبير إلى المبيت في بيته تلك الليلة، ولكنهم لم يستجيبوا، لأن الدعوة كانت رخوة ومن قبيل "رَفْعِ العتب" فقط... انتعلوا أحذيتهم ولملموا أشياءهم، وبعد وداع صاحب البيت ومَنْ لم ينم بعد من أهله انطلقوا قاصدين الطريق الترابي المؤدي إلى القرية التي تختفي وراء "تل الرُّجم" الذي كانت تبتلعه في تلك الليلة المظلمة عتمة شديدة.لم يكونوا قد ابتعدوا بعد عن نهاية حبل بيت الشعر الأمامي الذي لا يتعدى طوله عشرة أمتار حتى "نفرتْ" إحدى عنزات القطيع، الذي كان يهجع باسترخاء أمام البيت، نفرة قوية... فاجأت "عطسة" العنزة أحد الضيوف، لأنه كان يفكر في تلك اللحظة بما سيحدث لهم على الطريق إلى القرية في مثل هذه الساعة "المتأخرة" من الليل... ارتجف هذا الشاب الذي كان في نحو العشرين من عمره وأطلق آهة مخنوقة... فضحك رفاقه ورد صاحب البيت بضحكة مدوية مفتعلة، ثم مضى الضيوف نحو مقصدهم، وآوى صاحب المنزل إلى فراشه، وهو يحاول طرد بعوضة كانت تحاول الوصول إلى إحدى أذنيه.مضى الرتل في اتجاه القرية وهم يتسامرون بأصوات مرتفعة لتبديد وحشة الليل، ولطرد الأشباح التي كانوا يشعرون أنها كانت تماشيهم خلال دغل الأشجار الذي يماشي الجانب الأيمن من الطريق. توقف الذي أصابته "عطسة" العنزة قبل عشر دقائق بذعر شديد وهمس وهو يضغط على أسنانه ويتكور حول نفسه ويحاول أن يتوسط المجموعة: "انظروا هناك مجموعة من اللصوص تنتظرنا على الجانب الأيسر من الطريق" توقف أفراد المجموعة بدون اكتراث في البداية، لكن ما لبث الخوف أن استبد بهم عندما توهجت السجائر التي كان يدخنها اللصوص "الكامنون" عند فم مغارة كبيرة في عتمة الليل.توهجت السجائر مرة أخرى، واشتد توهجها فازداد ذعر الشاب الذين أخافتهم "عطسة" العنزة وتعاظم خوفهم... ولدى إحدى توهجات سجائر اللصوص أطلق صرخة مدوية، فجاوبه آخر بصرخة مماثلة ثم أخذ باقي أفراد المجموعة يشاركون في الصراخ. كان صاحب البيت لايزال يتقلب في فراشه ويحاول طرد البعوضة اللعينة التي كانت تستهدف بإصرار عجيب إحدى أذنيه. سمع الصيحات المتلاحقة، فنهض وتناول بارودة الصيد التي كان يضعها تحت وسادته وانطلق راكضاً في اتجاه الصراخ... أخذ ينادي على المجموعة ليطمئنها، لكن الصراخ اشتد، وعندما وصل إلى حيث كان الضيوف تحولوا إلى كتلة من اللحم المرتعش، سألهم عما بهم فأشاروا إليه حيث كانت سجائر اللصوص تتوهج في عتمة الليل، فضحك... وضحك حتى كاد يسقط على الأرض، وذهب إلى حيث كان اللصوص يدخنون، وعاد وهو يحمل فوق كف يده اليمنى واحدة من حشرات الليل المضيئة "القُويْدِحْ"، التي ربما لايزال يتذكرها الذين عاشوا في صغرهم في أرياف الأردن الجميلة.
أخر كلام
من الذاكرة: «القُويْدِحْ»
18-07-2013