لا تفسير لهذا التلهف الأميركي لتحقيق تسوية سياسية مع إيران بشأن برنامجها النووي إلا أن الإدارة الأميركية اقتنعت أخيراً بأنه لا جدوى من سياسة فرض العقوبات، والأجدى التحاور مع إيران حول برنامجها النووي لضمان سلميته بناءً على فتوى الإمام الخميني التي تحرّم امتلاك الأسلحة النووية، والتي أشار إليها الرئيس الأميركي في خطابه مؤخراً.

Ad

 لقد وصف الاتصال الهاتفي الذي تم بين الرئيسين أوباما وروحاني، وهو في طريقه إلى مطار نيويورك، بـ"التاريخي" لأنه غير مسبوق على هذا المستوى بين البلدين منذ الثورة الإسلامية 1979م، لكن الروايات تتناقض في الجهة التي بادرت بالاتصال، تقول واشنطن إنها تلقت إشارات من الإيرانيين بأن روحاني يريد الحديث مع أوباما وهو ما استجاب له البيت الأبيض بالاتصال، وتنفي طهران ذلك، وتقول إن الأميركيين هم الذين طلبوا ونجحوا في نيل موافقة روحاني على تلقي الاتصال مع رفضه المقابلة وامتناعه عن المصافحة بحجة عدم وجود الوقت الكافي للتنسيق، ووجود قضايا داخلية تحول دون اللقاء، ومع ذلك لم يسلم الرئيس الإيراني من هجوم وتقريع المتشددين لموافقته على تلقي الاتصال بعد عودته. وبغض النظر عن الجهة التي بادرت بالاتصال أولاً فإن الثابت أن هناك هرولة أميركية تصل إلى درجة التهافت لإتمام صفقة نووية سريعة مع إيران، ويبدو أن ساكن البيت الأبيض يريد أن يحقق إنجازاً تاريخياً عجز عنه السابقون، ومعروف أن أوباما في ولايته الأولى بادر مبكراً بسياسة "اليد الممدودة" إلى إيران، وأرسل مهنئاً الشعب الإيراني ومستذكراً أمجاده التاريخية عبر شريط فيديو إلا أنه قوبل برد مشوب بالسخرية من إيران.

 لم ييأس أوباما وظل ماداً يده آملاً من يصافحه، ولم يجد بغيته في عهد نجاد الذي لم يكن يفوت فرصة ضد أميركا، وجاء روحاني بابتساماته وتصريحاته الوردية ليرمم ما أفسده سلفه عبر سياسة "الدبلوماسية الناعمة"، وبضوء أخضر من الولي المرشد الذي قال "يتعين علينا في بعض الأحيان أن نتمتع بالمرونة في مواقفنا، لكنها مرونة بطولية".

 جاء إلى نيويورك وقد سبقته حملة إعلامية مبشرة بنهج جديد منفتح على العالم ومشارك في بنائه، فقد نشر مقالاً في واشنطن بوست يقول: إني أتوجه إلى نيويورك لحضور افتتاح الجمعية العامة، أحض نظرائي على اغتنام الفرصة التي قدمتها الانتخابات الإيرانية والدعم الحكيم الذي منحني إياه الشعب من أجل حوار بناء.

 ومن منبر الجمعية أعلن خطاباً تصالحياً حاول طمأنة العالم، مؤكداً أن بلاده لا تشكل تهديداً للعالم، وأن الأسلحة النووية لا مكان لها في عقيدة الدفاع الإيرانية وتتنافى مع اقتناعاتها الدينية، داعياً الرئيس الأميركي إلى تجاهل الدعوات إلى الحرب وإعطاء الأولوية للتفاوض حتى "يمكننا أن نجد إطاراً نعالج فيه خلافاتنا".

 وهو إذ ندد بالعقوبات المفروضة على بلاده فإنه استنكر– خلافاً لسلفه– المحرقة باعتبارها جريمة ضد الإنسانية، لم يصدق أوباما أذنيه وانتهز الفرصة التاريخية وبادر بالاتصال مبدياً رغبته في إيجاد حل شامل، وكلف وزير خارجيته متابعة المفاوضات مع مجموعة 5+1 في جنيف 15 أكتوبر.

 التساؤلات المطروحة: هل تتخلى إيران عن برنامجها النووي العسكري؟ وهل ستوافق على فتح منشآتها النووية السرية للتفتيش الدولي؟ وهل تتنازل عن التخصيب المتجاوز للمعيار المقبول دولياً للأغراض السلمية؟ وكيف يمكن لإيران طمأنة المجتمع الدولي بأن برنامجها سلمي الأهداف بخطوات عملية لا بمجرد التصريحات الوردية والفتاوى الدينية والابتسامات الودودة؟!

 أولا: يجب أن يكون واضحاً أن المفاوضات ستقتصر على الملف النووي دون غيره من الملفات الشائكة، وثانياً: إن أكثر المتفائلين كما يقول الكاتب القطري أحمد عبدالملك لا يتوقعون تغييراً جذرياً في النهج الإيراني لأنه (هذه هي إيران ولن يستطيع أي رئيس تبديل نهجها)، بمعنى أن المرونة الإيرانية متعلقة بالتكتيك والأسلوب لا بالأهداف والاستراتيجيات الثابتة.

 وطبقاً للكاتب السعودي د.عبدالعزيز صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث، فإن الدبلوماسية الإيرانية الناعمة قد لا تتضمن تغيير الأهداف، بل قد لا تتجاوز كونها لغة دبلوماسية عقلانية وأسلوباً دبلوماسياً ناعماً من دون تنازلات حقيقية عن الأهداف والطموحات.

 ولكن من الذي دفع أو شجع إيران على هذا السلوك الجديد؟ يرى المراقبون أن ذلك بسبب 3 أمور: العقوبات الاقتصادية، والضغوط الداخلية، ووجود رئيس أميركي مصاب برهاب التدخل العسكري كما حصل في التراجع الأميركي في الحالة السورية، وفي هذا يوضح د.محمد الرميحي أثر العقوبات الاقتصادية في الشعب الإيراني؛ مما دفع المرشد الأعلى للسماح برئيس إصلاحي منضبط بالوصول إلى السلطة مع إعطائه قدراً من المرونة سماها "مرونة الأبطال" بهدف تفادي الأسوأ داخلياً وخارجياً، وهذا يعني أن تأثير العقوبات اقتصر على تغيير السلوك لا الأهداف.

 دعونا نتساءل: ما التنازلات التي ستقدمها إيران في ملفها النووي في مقابل رفع العقوبات وضمان مصالحها في المنطقة؟ يرى بعض المراقبين أن التنازل الأكثر رجحاناً هو تراجع إيران عن تخصيب يؤدي إلى تطوير سلاح نووي، ولكن هل ستسمح إيران بفتح منشآتها النووية السرية للتفتيش الدولي للتأكد من التزام إيران هذا التنازل؟ هذا ما أستبعده تماماً لعدة أسباب:

1- إذا كان الرئيس روحاني قد تلقى لوماً وتقريعاً شديدين من خصومه وهم الأكثرية المهيمنة والمتشددة لمجرد أنه سمح بتلقي مكالمة أوباما، واعتبروا عمله مرونة غير لائقة مع الأعداء، فكيف سيسمحون بفتح المنشآت النووية السرية أمام الأعداء؟!

2- إيران يمكن أن تجوع شعبها وتصبر، لكنها لن تتنازل عما تراه حقاً مشروعاً لها وهو السلاح النووي، إذ كيف يسمح المجتمع الدولي لأمم أقل شأناً وحضارة بالسلاح النووي مثل إسرائيل وباكستان والهند وكوريا الشمالية، ويمنعون إيران وهي الأمة الحضارية العريقة؟!

3- امتلاك السلاح النووي، أصبح اليوم في إيران ونتيجة للشحن الإعلامي للشعب "عقيدة" وطنية ودينية وقومية لا يمكن التنازل عنها أو التفريق فيها سواءً من قبل المحافظين أو الإصلاحيين، وإلا اتهموا بالخيانة الوطنية.

4- لا يمكن لإيران أن تضحي بالبرنامج النووي وقد صرفت عليه المليارات وتحملت في سبيله ما لم تتحمله أمة، وبخاصة أنه قد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الولادة وتحقيق الحلم الإيراني.

5- إيران، نظام أيديولوجي شمولي، وأي نظام شمولي في العالم لا ثقة له بأحد في بقائه واستمراره، إلا السلاح النووي لشد عود قوتها العسكرية وتعزيز صدقيتها وعندنا كوريا الشمالية التي تتخذها إيران نموذجاً.

6- دع عنك الفتوى الدينية بتحريم تملك النووي، إذ لا يصدقها أي مسلم، فهي مخالفة للآية الكريمة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة"، فضلاً عن أنها مناورة دينية قائمة على مبدأ "التقيَة" الدينية والذي يشكل جزءاً من العقيدة الدينية في المذهب الشيعي.

ختاماً، يقول عبدالله بشارة: ومهما قيل عن النظام الإيراني فإن الدبلوماسية الإيرانية هي خليط من الدهاء الفارسي التاريخي والانتهازية الشديدة التي تلاحق المنافع دون اعتبار للأخلاق والمجاملات، إذ لا تضحي بالثوابت القومية الأساسية وأبرزها الحصول على السلاح النووي، لأن إيران دولة مذعورة من احتمالات العدوان عليها لتبديل النظام؛ ولذلك تعتقد القيادة الإيرانية أن النجاة هي في "القوة النووية"، ولا تعبأ بالاعتبارات الأخلاقية وغيرها.

* كاتب قطري