في مقال سابق تحدثتُ عن مشاعر الذنب التي خلّفتها مسرحيةُ «بيت الدمية» لإبسن. مشاعر ذنب الرجل ذي السيادة القَدَرية، والاجتماعية على المرأة. بالرغم من أن المسرحية انتهتْ بانتفاضة المرأة التي هجرتْ البيت، ولكنها توقفتْ عند ذلك. وكأن إبسن ألقى المرأةَ المنتفضةَ في هاويةٍ مجهولة، ولا يعرفُ الخطوةَ التي تليها. ولقد علقت حينها بأن خطوةَ المرأة مازالتْ حتى اليوم تراوحُ تحت ظل الرجل ذي السيادة القَدَرية، المدعوم هذه المرة من وسائل حديثة بالغة السطوة، فالمرأةُ لم تعدْ دميةَ بيت الزوجية، بل هي اليوم دميةُ العالمِ أجمع.

Ad

قبل يومين شاهدتُ فيلماً حلّ متأخراً على سينمات لندن. فيلم «ما الذي عرفتْه مَيزي» (2012)، المأخوذ عن رواية لهنري جيمس (1843-1916) بالعنوان ذاته. والفيلمُ لم يقصّرْ في حقني بمصل مشاعر الذنب الرجولية أيضاً. وإذا كانت مسرحيةُ إبْسن قد فعلت ذلك في مشهدها الأخير، فإن الفيلمَ فعله في كل مشاهده.

الروايةُ تدور حول زوجين طموحين بأنانيةٍ وابتذال في انكلترا العصرِ الفيكتوري. مخرجا الفيلم (سيغل وماكجي) وضعاهما في نيويورك المعاصرة. لهما طفلةٌ تُدعى «ميزي» (6 سنوات)، تقع ضحية نزاعاتهما الأنانية والمبتذلة. وانشغالُهما الدائمُ بمطامحهما المالية، من جانبه، والنجوميةِ اللاأخلاقية، من جانبها. وعند انفصالهما عن بعض يرتبطُ الزوجُ بمربيةِ الطفلةِ الشابة، ويتخذها زوجةً. كما ترتبط الزوجةُ بشابٍّ عابرٍ انتقاماً. وكلا الزوجين يتهرب من المسؤولية، ويتركان الطفلةَ في النهاية تحتَ رعايةِ الشابين. ولكنّ الشابين، لحُسنِ حظّ الطفلة، يتقاربان من بعضٍ بفعل تعلقِهما بها. وتنتهي التأزّماتُ الخفيةُ المعتمِلة داخل كيان ميزي بمفتَرقِ طُرقِ طفولتها. فهي لم تعدْ تشعرُ بانتسابها لأبويها. ترفضُ دعوةَ أمها للالتحاق بها. وتُفضّل في لحظةِ الاختيار أن تحتفظَ بدفء راحتيْ الشابين في يدها، فهما أب وأمٌّ بديلان.

الرائع في الفيلم أنه يجعلنا نصحب الطفلة (تقوم بدورها أوناتا أبرايل) على امتداد ساعتين، دون أن يسمحَ لنا باختراقِ بشرتها البريئةِ المحببةِ إلى ما يعتملُ وراءها. إنها وحدها التي تعرف. وما علينا إلا أن نجتهدَ ونتأمل.

مشاعرُ الذنب التي خلّفها الفيلمُ في داخلي، كأب، تُشبه مشاعرَ الذنب التي خلّفتها مسرحيةُ «بيت الدمية» كزوج. مع الأول لم يكن يعنيني كثيراً ما يتعرضُ له عالمُ الطفل الداخلي من إرباك جراءَ ضجّةِ الخلافِ والطلاق. وفي الثانية لم تكنْ تعنيني التضحيةُ غير المرئية، التي يفرضها ضعفُ المرأة، وتهميشُها في عالم يحكمه الرجل. وكنت تمنيتُ لو أن مشاعرَ الذنب الخفية هذه تعتملُ في داخل الرجل، قبل أو مع ارتكاب الخطأ والخطيئة. ولعلها كانت تحدثُ على هذا المنوال، إلا أن الرجلَ ذا السيادة أثخنُ مكابرةً من أن تخترقَها مشاعرُ الذنب البالغةُ الرقة.

كنتُ أُفضّل قراءةَ الرواية قبل مشاهدةِ الفيلم، ولكن نثرَ هنري جيمس الروائي كان يحول بيني وبين قراءته دائما. فتكلُّفه الصعوبةَ، والجمل غير المنتهية مرهقٌ، لا في هذه الرواية بل في كل رواياته التي كتبها في الثلث الأخير من حياته. أحد النقاد يعتقد أن هذا التكلفَ دخلَ نثر جيمس مذ صار يُملي روايته على سكرتيرته. وما يعزز عطلَ استجابتي في قراءته آراءُ كتاب أعلام من وزنه. فهذا ه. ج. ويلز يصف جيمس بفرسِ النهر الضخم الذي يجهد عبثاً بالتقاطِ حبة بازلاء حُشرت في ركن قفصه. أوسكار وايلد يأخذ عليه بأنه «يكتب الروايةَ وكأنها واجب مؤلم.» بورخيس يعتقد «أن روايته تعاني عيبا كبيرا هو: غياب الحياة. «والنقاد جميعاً لا تفوتهم الإشارةُ إلى هذه الصفة التي يتميز بها نثره.

هنري جيمس، الأميركي الذي أقام في انكلترا وحصلَ على جنسيتها في آخر سنتين من حياته، غزيرُ الانتاج، لا في حقلِ الرواية، وهي عمادُ إبداعه، بل في الكتابة للمسرح، وفي النقد الأدبي.