لم تحقق ثورات تونس ومصر وليبيا بعد عامين أهدافها، لم تتحقق الديمقراطية ولا العدالة الاجتماعية ولا المعيشة الكريمة بل تحولت هذه الدول إلى طاردة لشبابها إلى الخارج لأجل معيشة كريمة! آمال كبيرة كانت معقودة على ثورات الربيع لتحقيق التحول الديمقراطي وتفكيك عقدة الاستعصاء العربي للديمقراطية، هذا الاستعصاء الذي دفع صقور البيت الأبيض لغزو العراق وإسقاط نظامه، تمهيداً لفرض الديمقراطية على المنطقة، ظناً أن غيابها ولَّد الإرهاب الذي ضرب أميركا في عقر دارها.

Ad

غرست أميركا شجرة الديمقراطية في أرض غير مهيئة، فلم تمتد جذورها، واقتلعت بخروجها، وجاءت ثورات الربيع مبشرة بالديمقراطية والحرية، فهللنا لها وكنا واهمين، زحف الإسلاميون وامتطوا ظهر موجة الربيع، وانفردوا بالسلطة، وأقصوا الآخرين، واستحوذوا على المؤسسات، وأرهبوا القضاة، وتغولوا على القضاء وتدخلوا في شؤونه، وهم اليوم يسعون حثيثاً إلى تكميم الإعلام، وتقييد الحريات، فخيبات الأمل التي أعقبت هذه الثورات بددت الآمال بمستقبل ديمقراطي.

اليوم أسترجع صدى صوتين كانا يحذران من تداعيات التغيير العنيف ويخالفان توقعاتنا، الأول: صوت الصين التي رأت أن الديمقراطية الغربية لا تصلح لنا، وأن الثورة في مصر قد تأتي بقلاقل سياسية واقتصادية، هاجمها الجميع واتهمها بتأييد المستبدين ثم أثبتت الأيام صدق نبوءتها، الثاني: صوت الكاتب والصحافي الأميركي فريد زكريا صاحب الكتاب الشهير "مستقبل الحرية"، الذي اختارته "نيويورك تايمز" كأبرز كتاب لعام 2004، حيث حذر الكاتب من الإطاحة بالأنظمة الدكتاتورية في العالم العربي، موضحاً أنه: لو تمت الإطاحة بالأنظمة القائمة وجرت انتخابات حرة، فإن النظم البديلة ستكون أكثر رجعية، صحيح أن هذه الأنظمة مستبدة وحكامها فاسدون يستخدمون أبشع أساليب قهر المعارضين، لكنها الأنسب لحكم الشعوب العربية، بل إنها أكثر ليبرالية من الأنظمة التي ستأتي بها الديمقراطية.

وبحسب تصور الكاتب، فإن منطقتنا غارقة في نظرية المؤامرة، لذلك لن تأتي الديمقراطية -أي الانتخابات الحرة- إلا بالإسلاميين الذين يجيدون لعبة "الانتخابات"، بينما هم يكرهون الديمقراطية في داخلهم ويعتبرونها مؤامرة غربية للسيطرة عليهم، يؤكد زكريا أن تطبيق الديمقراطية، أي الانتخابات الحرة، دون شرطها الضروري (الليبرالية) في بيئة تسودها الطائفية والمذهبية والقبلية تنتج أضراراً فادحة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بل وتفاقم النزاعات الأهلية: الطائفية والدينية والإثنية، وستتراجع حقوق الإنسان، ويضيق مناخ الحريات العامة بسبب طغيان الأغلبية على الأقليات الأخرى.

يستشهد زكريا بنماذج تاريخية منها: وصول هتلر إلى السلطة 1932 بانتخابات ديمقراطية حرة، فوز الأصولية المتطرفة في انتخابات الجزائر 1991، تصريح هولبروك 1990 بأنه لو أجريت انتخابات في يوغوسلافيا لانتخب الشعب نواباً عنصريين وفاشيين وطائفيين، يرى المؤلف أن الديمقراطية (الانتخابات) من غير "الليبرالية الدستورية" تؤدي إلى نظام دكتاتوري أسوأ، ويرى أن الديمقراطية إنما هي ديمقراطية ليبيرالية لا تتميز بالانتخابات الحرة فحسب، بل بسيادة القانون والفصل بين السلطات وحماية الحريات الأساسية للتعبير والتجمع والديانة والتملك أيضاً، ولكن حين تطبق الديمقراطية غير الليبرالية في بيئة تفتقد المقومات الأساسية لنجاح الديمقراطية، فإنها تفرز أناساً لا يؤمنون بحقوق الإنسان على قدم المساواة للجميع.

وفي ضوء ذلك، ينصح زكريا أميركا بأن تشجع النظم العربية الحاكمة على تطبيق "الليبرالية الدستورية" دون الضغط عليها لإجراء انتخابات حرة قد تأتي بمن هم أكثر استبداداً وتصادماً مع الغرب وقيمه، فما تحتاج إليه أميركا -في نظر المؤلف- في مجال السياسة الخارجية، ليس قدراً أكبر من الديمقراطية وإنما قدر أقل! خلافاً للمقولة الشهيرة: علاج الديمقراطية بمزيد من الديمقراطية! ترى ماذا يقول زكريا اليوم وقد تحقق ما حذر منه وتنبأ به قبل 7 سنوات من ثورات الربيع العربي، في ضوء ما تشهده المنطقة من تراجع في حقوق الإنسان وانتكاسة في مكتسبات المرأة وتمييز بين المواطنين خصوصاً المسيحيين والبهائيين في مصر (انظر مقالة طارق حجي: لو كنت بهائياً في مصر!) ألا يحق لفريد زكريا أن يتساءل اليوم، وهو يرى تردي أوضاع المنطقة إثر تداعيات الربيع العربي، أن يتساءل: لماذا لا تستطيع الديمقراطية ترسيخ جذورها بسهولة في العالم العربي؟! طرح الكاتب هذا التساؤل أخيراً وحاول الإجابة عنه بالاعتماد على ورقة بحثية لأستاذ الاقتصاد بجامعة هارفاد، إريك تشاني، الذي طرح فرضيات عدة:

الأولى، أن الإسلام كدين ليس مسؤولاً عن غياب الديمقراطية والليبرالية في العالم العربي والإسلامي، بدليل أن دولاً إسلامية مثل: تركيا، وإندونيسيا، وماليزيا، تمتلك أنظمة ديمقراطية فاعلة.

 يضيف زكريا: وهذا لا يمنع القول ان "المتأسلمين" يستغلون الدين في تحقيق أهداف سياسية والوصول إلى السلطة عبر الانتخابات مع أن حكام العرب أكثر ليبرالية منهم.

الفرضية الثانية، أن الوضع الاقتصادي غنى أو فقراً، ليس سبباً كافياً لنمو الديمقراطية الليبرالية أو غيابها، فمن الممكن أن تكون الدولة غنية وتفتقر إلى الديمقراطية، لأن ثراءها يجعلها في غنى عن الشعب، فلا يستطيع محاسبتها، لأنها ليست بحاجة إلى ضرائبه، كما يمكن ألا تمتلك الدولة موارد طبيعية ولا تعرف الديمقراطية أصلاً كسورية مثلاً.

الفرضية الثالثة، أن الثقافة العربية ليست المسؤولة عن غياب الديمقراطية الليبرالية، لأن هناك العديد من البلدان المجاورة للعالم العربي تشترك هي الأخرى معه في الافتقار إلى الديمقراطية مثل: إيران، وتشاد، وأذربيجان، وطاجيكستان، أوزبكستان، وهي كلها ليست عربية.

الفرضية الرابعة، جمود النظام المركزي العربي، ينقل زكريا عن تشاني الذي لاحظ أن الافتقار إلى الديمقراطية اليوم يوجد في الأراضي التي فتحها جيوش العرب، إذ بقيت هذه الأراضي التي سيطر عليها العرب في القرن الثاني عشر غير متطورة اقتصادياً إلى اليوم، وتفسير ذلك عن أستاذ علم الاقتصاد، تشاني، أن التطور السياسي للنظام المركزي العربي لم يشجع التعددية الاقتصادية، وذلك لقيامه على 4 ركائز معوقة للتطور الديمقراطي هي: 1- سلطة سياسية مركزية. 2- مجتمع مدني ضعيف. 3- طبقة تجار معتمدة على الدولة. 4. تدخل كبير للدولة في الاقتصاد. ويوثق تشاني فرضيته بما لاحظه من أن حصة الحكومة من مجمل الإنتاج العام في بلدان الفتوحات العربية هي أعلى بنسبة 7 في المئة من حصة حكومات البلدان التي لم تتعرض للفتوحات، كما لاحظ أن بلدان المجموعة الأولى يوجد بها اتحادات تجارية أقل من بلدان المجموعة الثانية، إذ إن هذه الاتحادات تمارس أنشطة منظمات المجتمع المدني الحيوية التي تساهم في التطور الديمقراطي، وينتهي زكريا إلى القول بأن ذلك لا يعني أن المنطقة عصيّة على التغيير، ولكن يرى أن التحدي الرئيسي أمام العرب يمكن في إيجاد مجتمع مدني نشط، ووجود أحزاب سياسية، وقطاع خاص قابل للاستمرار ذاتياً.

ومع تقديري لهذه الفرضية إلا أنها منقوضة تاريخياً، لقد كانت دولة الخلافة عالة على مجتمعاتها لتمويل نفقاتها عبر الجباية والضرائب، وقلّما عول المجتمع المدني الأهلي الإسلامي على الدولة إلا في 3 وظائف: الدفاع والأمن والبريد، وأما بقية الخدمات والمرافق والتربية والتعليم والتثقيف والشؤون الصحية والاجتماعية والتجارية والحرف، فقد كانت من مسؤوليات المجتمع المسلم باعتبارها فروض الكفاية، لقد كان المجتمع المدني الأهلي فاعلاً متحركاً عبر التاريخ الإسلامي يموج بالحركة، بل وبالثورة، وكان للعلماء حرياتهم الكاملة في الفتوى والاجتهاد والتثقيف، وكان للقضاء استقلاليته، وكانت المبادرات الفردية والجماعية تملأ الفضاء المجتمعي، وقد عرف المجتمع الإسلامي منذ وقت مبكر، تعددية دينية وسياسية وعرقية وجنسية، وكانت هناك جماعات مهنية (نقابات) وفرق ومذاهب فقهية وطرق صوفية وجماعات سياسية (راجع كتابنا: نحو مفهوم عربي إسلامي للمجتمع المدني).

ومن ناحية أخرى، فإن العالم العربي قد تغير، وعرب اليوم غير عرب الأمس، لقد جرت مياه كثيرة، والعولمة أزالت حواجز وغيرت عادات ورفعت وعي الشعوب، وبلدان الفتوحات التاريخية لم تبق على أوضاعها، وهناك مساحة لا بأس بها للحريات الإعلامية في العالم العربي، والخليج اليوم أكبر منطقة منفتحة على العالم، وعندنا ديمقراطية الكويت العريقة التي أشاد بها البرلمان الأوروبي أخيراً، وقد احتلت الحريات الإعلامية في الكويت الصدارة عربياً وإقليمياً، صحيح أن الديمقراطية الليبرالية لم ترسخ جذورها بعد، لكن ذلك لعوامل أخرى قد نتعرض لها في ما بعد.

* كاتب قطري