في زيارتي الصيف الماضي إلى الولايات المتحدة مررت بولاية لاس فيغاس، وهي مدينة على عكس معظم الولايات الأميركية نبتت في الصحراء، لا نهر فيها ولا بحر ولا وجه حسن، كل ما فيها فنادق وناطحات سحاب، وكلما دخلت واحدة منها سمعت طنين ورنين أجهزة القمار لكسب المال أو بالأحرى خسارتها، حتى في ردهات المطاعم ومحطات البنزين يمكن لك أن تقامر أو بالأحرى تخسر.

Ad

ولا أعلم لم يذهب إليها الناس، خاصة أمثالنا الذين لا يلعبون القمار. كنت أظن أن هذه النظرية السوداوية تخصني وحدي، لكنني ما إن حضرت عرضاً كوميدياً "سناند أب كوميدي" للمثل الكوميدي الشهير جيري سانفيلد صاحب المسلسل الكوميدي الشهير سانفيلد حتى عرفت السبب.

في العرض الترفيهي المسائي يقوم سانفيلد بتقديم عرض مسرحي ساخر في فندق من فنادق لاس فيغاس الفاخرة كي ينتقدها دون أن يغلق أحد الفندق أو يطرده من المدينة، وقد بدأ سانفيلد عرضه الساخر بالقول: "ما الذي جاء بكم إلى هنا، ماذا تريدون في مدينة كلها صحراء، كل ما ترفهون به عن أنفسكم فيها هو أنكم تقامرون، وتخسرون فلوساً، وكلما خسرتم قلتم سنعوض اللعب في المرة القادمة وتلعبون، هل تعرفون لماذا جئتم إلى هنا؟، كي تتصلوا بأصدقائكم وتقولون لهم "هيي نحن هنا نقضي ثلاثة أيام في لاس فيغاس" فيشعرون بالحزن وتشعرون أنتم بالشماتة، قد لا تكون الترجمة دقيقة، فهو كما قالها بالإنكليزية: they fell bad you fell good".

يبدو أن معظم ما نفعله هو حرصنا على أن نستمتع من خلال شعور الآخرين بالـ"باد"  فنشعر نحن بـ"القوددد" أي نغيظهم، ولو راقبت الطفل فستجد أنه لا يستمتع بالشيء إلا حين يعرضه أمام أقرانه؛ انظر لدي لعبة، انظر لدي مسدس، ونكبر ونحن مهووسون بحكاية الاستعراض هذه: "انظر لدي سيارة أغلى، انظري لدي أطفال أكثر، انظر لدي منزل أكبر، انظري لدي ساعة أغلى".

في الحقيقة أنت لا تقول انظر فقط  بل تفعل أي تسعى لكي تحصل على الأشياء التي تجعل الناس تنظر إليك، طريقة الاستعراض هذه انتقلت إلى جيل الإعلام الجديد لكن على طريقته، وخاصة الفتيات، فهناك موقع تواصل اجتماعي يدعى "فيسبوك"، وهذا الموقع أصبح يمثل ساحة استعراض هائلة، تعرض فيها كل صورك وأنت في الشاليه وأنت في المنزل، وأنت في فوق الجبل، وأنت في القبو، وتحرص الفتيات على استعراض كل فعالياتهن وبوزاتهن، فمرة يظهرن وهن يمططن بوزهن للمقدمة، ومرة وهن يظهرن الصدغ الأيمن فقط، بينما الصدغ الآخر مغطى بالشعر، والشباب مرة يركبون بورش واقفة أمام بيت الجيران قائلين: هذه السيارة استأجرتها قبل قليل، ومرة وهم يحتفلون بخروج صديقهم من السجن، ويكتبون تحتها صديق قدم من أميركا للتو، وما يحدث كما تقول آخر الدراسات الأميركية إن "فيسبوك يسبب الكآبة"! كنت أظن أن "فيسبوك" سبب الكآبة للحكام العرب حيث أسقط أنظمتهم وحرض على التظاهر ضدهم وكشف حسابات بنوكهم السرية، لكني وجدته أيضاً يسبب الكآبة للعرب وغير العرب، فالكل في "فيسبوك"؛ في الشاليه وفي الشوبينغ وفي الملاهي سعيد ومتباه.

وقد لاحظت أن ابنتي طوال تحديقها في شاشة "فيسبوك" تبدو حزينة، فالناس كما يظهرون في "فيسبوك" يمرحون ويلهوون وهي جالسة تتفرج عليهم، ولا أحد يدري أنهم حالما يخرجون خارج "الكارد" فإنهم يعودون جميعاً إلى كآبتهم، لأن تسليتهم الوحيدة كما يقول سانفيلد "أن يجعلوك تشعر بالباد فيشعروا هم بالقووود".