ينبغي أن نحترم حكم المحكمة الدستورية وإن لم يعجبنا أو يقنعنا، فهي أولاً وأخيراً المرجعية النهائية في حسم الخلاف بين السلطات، وقرار المحكمة هو البديل عن الدوران في حلقة مفرغة تزيد فيها حدة الخلاف والاصطفاف وتستنزف البلد بمن فيه.

Ad

ولعلنا قلناها في أكثر من مناسبة إن المحكمة الدستورية لن تحل مشاكلنا العالقة منذ سنين وحكمها الأخير رغم أنه حسم جانباً قانونياً ضيقاً، لن يشفع في حل الأزمة السياسية التي تحتاج إلى حوار جاد وصريح أو الرجوع إلى أدوات الضغط المؤثرة في صنع القرار ومحاولة كسبها من جديد، الأمر الذي يتطلب جهداً كبيراً لا سيما بعد أن خسرت قوى المعارضة الكثير من أوراقها بسبب أخطاء سخيفة عرضنا بعضها أيضاً في مناسبات عدة.

وعوداً إلى الحكم الأخير للمحكمة الدستورية المتمثل بتحصين مرسوم "الصوت الواحد" من جهة وإبطال مجلس 2012، النسخة المكررة، ورغم احترامنا له إلا أن حيثيات الحكم تدعو إلى الوقوف ملياً عند العديد من النقاط قد تكون محل نقاش القانونيين والسياسيين في الفترة القادمة.

ومن بين الأمور الغريبة في حيثيات الحكم التناقض الحكومي الواضح من سلطات المحكمة ذاتها، ورغم تأكيدات صاحب السمو الأمير المتكررة على احترام حكم المحكمة وتصريحات الحكومة، فإن مذكرة الدفاع الحكومية قد أهانت المحكمة، حيث أوردت وبعبارات صريحة أنها، أي المحكمة، غير معنية أصلاً في النظر في دستورية مراسيمها ومذكرة الفتوى والتشريع، قالتها بملء الفم يا محكمة "ما لكم شغل" في هذا الشأن، ومع الأسف الشديد مرت هذه العبارات مرور الكرام وسط الصخب السياسي، الأمر الذي يعني أنه ليس فقط بعض أطراف المعارضة كانوا ضد الاحتكام إلى المحكمة، وهذا قد يعكس آراء شخصية وفردية، لكن الحكومة أيضاً كانت ضد ذلك وبموقف رسمي ومعلن.

أما عن حيثيات الحكم نفسه فقد أعطت المحكمة لنفسها صلاحيات كبيرة، وبسطت يدها بشكل مطلق على الرقابة على المراسيم، وقالتها بوضوح وبثقة كبيرة إنها ستستمر في هذا النهج في المستقبل، وهذا بحد ذاته محل تقدير وصمام أمان، ورسالة بأن الضرورة وتقييمها من شأنها كذلك.

ولكن إفراط المحكمة في إسهابها السياسي لم يكن في رأيي موفقاً ليس من باب تجرئها في الخوض في الأمور السياسية فحسب، بل انزلاقها إلى التسييس على حساب الفقه الدستوري والعمق القانوني.

ولهذا، فإن حيثيات الحكم السياسية ليست قابلة للانتقاد والتقييم فحسب إنما اعترتها تناقضات كان من الأجدر أن تنأى المحكمة بنفسها عن الخوض في غمارها، فلجوء المحكمة إلى تبرير "الصوت الواحد" في الدوائر الخمس سياسياً يتناقض تماماً مع التبريرات السياسية التي سددتها في تحصين "الأصوات الأربعة" قبل شهور محدودة. إضافة إلى ذلك، فإن التعريف السياسي لمفهوم لكل فرد صوت واحد ومقارنة ذلك بالعديد من الديمقراطيات باهت ويفتقر إلى أدنى درجات علم السياسة المقارنة ومناهجه العلمية، فهذه الديمقراطيات دون استثناء يكون الصوت الواحد منها للحزب السياسي وليس للمرشح، ويصب كل صوت في إناء الحزب وليس المرشح لتشكيل الكتل البرلمانية، وهذه القاعدة السياسية مفقودة تماماً في نموذجنا السياسي.

والأغرب من ذلك، الاستشهاد بمفهوم الأقليات وفق السياق العامي وليس السياسي، فالأقليات في الدول الديمقراطية يخصص لها إما نظام "الكوتا" أو تنضم إلى أحزاب سياسية، وليس وفق المفهوم الكويتي أن كل عائلة أو قبيلة أو طائفة تعتبر نفسها أقلية، وعموماً فإن تجربة الأزمات السياسية الراهنة حتى مواقف السلطات الثلاث منها تدعو بإلحاح إلى الإصلاح والتطوير لكل منها دونما استثناء من أجل فهم أعمق للديمقراطية التي يتجاوز عمرها نصف قرن، ولم نفهمها أو لعل البعض لم يؤمن بها حقاً!