وجهة نظر: عندما يمشي الإصلاح الاقتصادي على رأسه!
حزمة سياسات الإصلاح الاقتصادي في البلدان النامية، التي أوصت بها جمهرة الاقتصاديين، وشجعتها المنظمات الاقتصادية الدولية خلال التسعينيات، كانت تهدف الى تحرير الأسواق، والحد من الدور الاقتصادي الواسع للدولة.وتمثل المحور الرئيسي لتلك السياسات في الخصخصة، أي تحويل الأصول والمؤسسات الاقتصادية التي تملكها الدولة الى القطاع الخاص، لكن عددا لا بأس به من حكومات البلدان النامية انحرف في تطبيق هذه السياسات، فبدلا من تحرير الأسواق وفتح الأبواب للقطاع الخاص للاستثمار والعمل في مجالات الأنشطة الاقتصادية التي تتخلى عنها الدولة، تحولت مؤسسات القطاع العام إلى احتكارات خاصة هيمن عليها رجال أعمال مقربون للسلطة.
وهذا تحديدا ما حدث في المكسيك عندما تمكن كارلوس سليم حلو، وهو ثري مكسيكي من أصل لبناني، من تملك مؤسسة الاتصالات المكسيكية "تيلمكس"، التي كانت ضمن خيارات برنامج الخصخصة الذي أطلقه الرئيس كارلوس سليناس في عام 1990. ويسيطر احتكار "تيلمكس" على 90 في المئة من سوق الهاتف الأرضي في المكسيك. ويحتل كارلوس سليم حاليا بفضل هذا الاحتكار المرتبة الأولى في قائمة أثرياء العالم، وهي القائمة التي تصدرها لثلاث سنوات متتالية. وتقدر مجلة فوربس العالمية ثروته في عام 2012 بنحو 69 مليار دولار، أي نحو 5 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي للمكسيك. هذا النموذج الصارخ استخدم مدخلا لتقييم سياسات الإصلاح الاقتصادي المتعثرة في عدد من الدول النامية، في كتاب يستحق القراءة صدر للتو، بعنوان "لماذا تفشل الأمم"، كتبه دارون أسيموغلو أستاذ الاقتصاد في "إم آي تي"، وجيمس روبنسون أستاذ الدراسات الحكومية في "هارفارد".في النسخة المصرية توجد أمثلة لا حصر لها من انحراف سياسات الإصلاح الاقتصادي. في عام 1993 حين تقرر تخصيص شركة النصر للمرطبات، وهي الشركة المالكة لاحتكار الكوكاكولا في مصر، تمكن رجل الأعمال الراحل محمد نصير، الذي كان شديد الصلة بعاطف عبيد وزير قطاع الأعمال آنذاك، من الاستحواذ عليها دون منافسة حقيقية، ثم أعاد بيعها بثلاثة أضعاف قيمة الاستحواذ. ومحمد نصير هو أيضا مؤسس شركة كليك جي إس إم، التي حصلت على ثاني رخصة لتشغيل الهاتف المحمول في مصر، والتي صار اسمها فودافون مصر، بعد امتلاك فودافون لها، وكان أيضا وكيل سيارات رينو وكيا وألفا روميو. وقد تكرر هذا السيناريو في عملية تخصيص صناعة السينما المصرية التي سمح لعائلتين فقط بالتقدم لمناقصتها وإحداهما عائلة ساويرس، التي يحتل ثلاثة أشقاء من أبنائها مراتب متقدمة في قائمة فوربس لأغنى أغنياء إفريقيا، ومنهم ناصف ساويرس، الذي تقدر ثروته بـ5.5 مليارات دولار، وشقيقه نجيب الذي حل في المرتبة التاسعة من القائمة. وعندما طرحت عام 1997 شركة الأهرام، المتخصصة في إنتاج المشروبات الكحولية وغير الكحولية للخصخصة، تقدم لشرائها تحالف رجال أعمال كبار ضم إضافة إلى محمد نصير، ومطور العقارات الشهير فريد سعد، ووزير السياحة الأسبق فؤاد سلطان، ومحمد عبدالفتاح رجب الشهير بالإمبراطور، وهو مالك مجموعة شركات رجب للورق ورجب للمواد الغذائية ومدارس الريادة وجامعة فاروس الشهيرة ومركز سموحة السياحي الذي يضم فندق ومول غرين بلازا، إضافة الى وكالتي فورد وديهاتسو. لكن شخصا آخر، أوثق صلة من كل هؤلاء بأسرة الرئيس مبارك، وهو أحمد الزيات، المتربع على عرش مجموعة الأقصر، تمكن من تجاوزهم، والاستحواذ على شركة الأهرام، ثم المتاجرة بأسهمها، والتوسع لاحقا بامتلاك الشركة المحتكرة لصناعة النبيذ، وإعادة بيعها إلى مجموعة هاينيكين الهولندية للمشروبات بهامش ربح وصل إلى 563 في المئة، وكل ذلك خلال فترة لم تتجاوز خمس سنوات.وقد ساعد على انحراف سياسات الإصلاح الاقتصادي في مصر وصول عدد من أصحاب المصالح والمشروعات الاقتصادية إلى مناصب وزارية ذات صلة بهذه المصالح والمشروعات، حيث عين رشيد محمد رشيد، رئيس شركة يونيلفر إفريقيا والشرق الأوسط، وزيرا للتجارة، وعين محمد زهير قرانة، صاحب شركة سفريات قرانة، وزيرا للسياحة، وأمين أباظة مؤسس شركة قطن النيل وزيرا للزراعة، وأحمد عز إمبراطور الحديد والصلب أمينا للتنظيم وعضوا في لجنة سياسات الحزب الحاكم.كل ما سبق يشكل أسبابا جوهرية من شأنها إخفاق سياسات الإصلاح الاقتصادي، كما حدث في عدد لا بأس به من الدول النامية، وعلى من يريد إصلاحا اقتصاديا حقيقيا أن يتعظ بتجارب غيره في هذا الطريق.* أستاذ الاقتصاد – جامعة الكويت