المدينة التي رأيتها في شبابي المبكر تتماثل مع سحر نثر طه حسين وعقلانية سلامة موسى، صارت اليوم غباراً، تلوثاً، ضجيجاً، زحمة واحتقاناً دينياً. كانت سفرتي إلى القاهرة بنت الصدفة. فقد جئتها من مسقط، بدل التوجه إلى لندن. في انتظاري وجدت معرض الكتاب، ووجدت احتجاج المصريين في ساحة التحرير.

Ad

في معرض الكتاب، الذي كان بلا دليل، تجولت أبحث عن ملامح الماضي الثقافي، الذي أغنى معرفتي أيام الصبا والشباب المبكر، أملاً في أن أجدها تنتظرني على أغلفة المنشورات المألوفة لدي آنذاك: كتابي، كتاب الهلال ورواياته، أعلام العرب، إقرأ، الألف كتاب، المسرح العالمي، كتاب الشعب، تراث الإنسانية. ومجلات: الفكر المعاصر، المجلة، الرسالة، الثقافة، السينما والمسرح، والطليعة... أشتري معظمها كل شهر لأنها زهيدة الثمن، وأقرأ معظمها كل شهر لأنها كانت ثقافة جيل متعافي العقل، خرجت حداثته من رحم النهضة أو ما تبقى منها، قبل أن تتمكن مرحلة الانقلابات الثورية وعتمة العقيدة من حرق جذورها.

زرت معرض الكتاب مرتين، فالطريق إليه طويل وخانق. ولم أدخل قاعات ندواته مرة واحدة. القاهرة جعلتني غير مبال. أسقطت المعنى من الكلمة، ومرّغته في الوحل.

وفي ساحة التحرير صرخة احتجاج معلنة، مقابل صرختي المكتومة، على ما حدث ويحدث. والذي يحدث يتقاسم زقّومه العرب جميعاً. الإسلاميون يغفلون أن لكل عقيدة عبر التاريخ وجهين، يشبهان قناعيْ الدراما: قناع باكٍ وآخر ضاحك. كالح ومشرق. أمرهما منوط بالمرحلة: متداعية أو صاعدة. مرحلة انهيار ومرحلة نهضة. والإسلاميون يغفلون، وهم يعترفون شأن الجميع بأن مرحلتنا متداعية ومنهارة منذ زمن، بأن وجه العقيدة قد تلبّس قناع الدراما الباكي، الكالح. مثاليتهم لا تسمح لهم برؤية أبعاد هذا القناع: القبح، الكراهية، العمى... كانت المسيحية الغربية في عصور انحطاط الغرب ذات مخالب دامية. في ازدهار الغرب الحضاري تحولت إلى زهرة مبتهلة. صرخة الاحتجاج تبدو في الظاهر سياسية، لكنها في الأعماق إنسانية وحضارية. فالمصري، شأن العراقي، مطمئن لإيمانه الديني في قلبه وعقله، ومطمئن عليه. ما يريده لنفسه، وما يريده له الدين هو الخبز الكريم، والعيش بحرية تليق بالإنسان. أما الآخرة فمعقودة بإرادته هو، ولا تحتاج إلى دليل مدفوع الثمن.

كنت أتجنب الكيلومتر المربع الذي يظم ساحة التحرير. ودونه تظل القاهرة هادئة، مستسلمة عن غير إرادة لشِباك الزحمة، الضجيج، التلوث الجوي والغبار. خمسة وعشرون مليون كائن حي يتخبطون في شرَك الشباك دون مخرج. كل حي وكل شيء يتحرك على هواه دون هاجس من نظام. وكنت أتعمد التخبط وسط الشِباك. أجرّب سيارات التاكسي وأحاور سائقيها. وأقتحم الكتل اللحمية في الباصات الكبيرة، وأزاحم الأكتاف في الترام وفي الميكروباص، وأُسحر بالتوك توك الصغير، أنفرد بسائقه الذي يقوده كدراجة نارية. مع الجميع أتحدث وكأني أحاور أبطال فيلم مصري.

في قلب القاهرة، التي كانت قاهرة ذات يوم، تتقشّر العمارة المجيدة، وكأنها مصابة بالجُذام. الحجارة التي تسقط لا تُعاد إلى مكانها، والصيانة مفردة أمست قاموسية، ولا حياة فيها. حول قلب القاهرة أحياء تُبنى على هوى المقاولين. مواليد شائهة تخرج من رحم الفساد الذي يحتضن البلد برمته.

مصر هبة النيل حقاً. فالنهر في القاهرة رحب، كريمٌ، فياض ينقسم على نفسه كل خطوة ليشكل جزيرة. ولكن ما إن تبتعد أرض مصر عنه حتى تعرى، تجف وتتعالى غباراً. الأهرام مهجور، لم أستطع أن أقربه بسبب سوء تصرف الأدلاء وفظاظتهم. الأحداث وسوء التصرف حرمت خزانة مصر من أكبر مواردها وهي السياحة. الطائرة التي عدت بها إلى لندن تكاد تكون خالية، والعاملون فيها خالون من الهمة بدورهم.

كم من السنوات تحتاج مصر لكي تسترد عافيتها؟ كم من السنوات يحتاج العراق؟ الصوت والصدى في داخلي.