كان أول عمل افتتح به السلطان مراد عهده، هو قتل إخوته الخمسة، حتى يأمن على عرشه من انقلاب داخلي، في مشهد أصبح معتادا في التاريخ العثماني، وكان سنده الأكبر في هذا القرار الدموي والدته السلطانة الأم "نوربانو"، التي حصلت على لقب السلطانة الأم رسميا مع تولي ولدها حكم الإمبراطورية العثمانية مترامية الأطرف، وتكون بذلك ثاني امرأة تحصل على هذا اللقب بما له من وظيفة رسمية في البلاط العثماني، بعد السلطانة حفصة خاتون أم السلطان سليمان القانوني، وإذا كانت حفصة خاتون استخدمت سلطاتها الواسعة في إقرار العدل والهدوء داخل الحرملك، فإن السلطانة الأم الجديدة نوربانو استخدمت سلطانها في إحكام قبضتها على الحرملك وابنها السلطان الشاب والدولة جميعا، فكانت مثالا للمرأة المتسلطة التي أصيبت بشبق السلطة والنفوذ.

Ad

 بدأت نوربانو تمد نفوذها شيئا فشيئا داخل قصر الباب العالي في عصر زوجها السلطان سليم الثاني ضعيف الشخصية، ولعبت دورا كبيرا في توجيه السياسة الخارجية، فاق أيّ دور لعبته جارية من الحرملك، فزوجها الضعيف سليم أوكل مهام الدولة إلى صدره الأعظم محمد باشا صوقوللو (نسبة إلى مدينة صوقوللو البوسنية التي ينحدر منها)، وتحالفت السلطانة نوربانو مع الصدر الأعظم لإدارة الدولة في ظل غياب السلطان سليم الغارق في ملذاته، وكان من حسن حظ الدولة العثمانية وجود شخصية قوية كالباشا صوقوللو، الذي نجح في مد عصر القوة للدولة رغم عدم وجود سلطان قوي، واستغل مواهبه الإدارية الفذة في ملء الفراغ الذي خلفه رحيل السلطان سليمان بشخصيته الفريدة، ووجود السلطان سليم ضعيف الشخصية، ما نجح فيه صوقوللو عن جدارة، فإليه وحده تنسب تلك الانتصارات المبهرة التي حققتها جيوش الدولة العثمانية في عهد السلطان سليم سواء في أوروبا أو في اليمن أو في تونس أو على الجبهة الإيرانية، وإليه ينسب الفضل في إعادة بناء الأسطول العثماني في سرعة مدهشة بعد كارثة معركة ليبانتو سنة 1571م التي حُطم فيها الأسطول العثماني، وعمل على مداراة نوربانو سلطان وتحجيم نفوذها من ناحية، والعمل على إرضائها بترك أمور الحرملك في يدها من ناحية أخرى.

وعندما توفي السلطان سليم، وقبل أن يصل السلطان الجديد مراد الثالث إلى العاصمة، طلبت نوربانو لقاء الصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو، لترتيب أوضاع السلطنة في ما هو مقبل، كان صوقوللو يعرف ما تريده نوربانو، لذلك توجه إليها، ووجدها في قاعة الاستقبال في الحرملك وقال: السلام عليكم حضرة جناب أم سلطاننا، وتقبل الله عزاءكم في سلطاننا الراحل.

نوربانو: شكر الله سعيك يا صدرنا الأعظم، وجزاك الله خيرا عن حسن بلائك في إدارة شؤون دولتنا العلية المنصورة.

صوقوللو: يا سيدتي، إنما أنا أحد خدم موالينا، وسيف من سيوفهم إذا شاءوا أشهروه وإذا أرادوا أغمدوه، فكل ما نملك من فضلهم، وكل ما نحن فيه برضاهم.

نوربانو: تعرف ما سيحدث من تغيرات في القصر بعد وصول ابني السلطان مراد، لذلك لابد من أن نستعد جيدا لترتيب دولتنا حتى لا يتطرق إليها الضعف.

صوقوللو: مولاتي ستحصل بإذن الله على لقب "السلطانة الأم" كما جرت العادة منذ أيام السلطانة حفصة خاتون رحمها الله، وستحصل على مخصصات السلطانة الأم، فضلا عن إشرافها الكامل على الحرملك، وسينقل إليكم آغا الحرملك مخصصات الحرملك أول كل شهر لإنفاقها في ما يراه جنابكم المعظم.

نوربانو: عظيم... ماذا عن تسيير أمور الدولة؟

صوقوللو: ما يراه جنابكم المعظم ينفذ فورا.

نوربانو: ابني سيكون سلطان البلاد، والأفضل أن يسانده صدر أعظم على دراية بأمور الدولة، حتى يشتد عود ولدنا، مستفيدا من حكمته.

صوقوللو: هذا صحيح سيدتي... خاصة أن الصليبيين الكفرة والشيعة أعداء دولتنا العلية قد بدأوا في التحرك ضدنا، وهو ما يستوجب التحرك بسرعة.

نوربانو: لن نجد أحداً أفضل منكم لإدارة شؤون الدولة في ظل سلطان ابننا البادشاه مراد خان، لذلك سأطلب من ابننا تجديد الثقة فيكم، وعليكم في المقابل ألا تفصلوا في أمر من أمور الدولة دون الرجوع إلينا وعرضه علينا، حتى يستقيم الأمر بيننا على قاعدة واضحة لا عوج فيها، واخرج الآن إلى الديوان العام وابدأ في الاستعداد لاستقبال السلطان الجديد.

ارتسمت ابتسامة على شفاه صوقوللو وهو يقول: الأمر لكم جناب المهد العالي، استئذن في الانصراف.

خرج الصدر الأعظم محمد باشا صوقوللو، وهو يتمتع بسلطات كبيرة بعد أن دعم نفوذه بتحالفه مع سيدة القصر السلطانة الأم نوربانو، التي بدأت تحكم الدولة من وراء ستار من خلال تحالفها مع الصدر الأعظم صوقوللو باشا، مستغلة في ذلك ضعف شخصية ابنها السلطان مراد الثالث الذي كان يبلغ من العمر 29 سنة عندما تولى العرش، ولكنه تميز بضعف الشخصية والانطواء داخل غرف الحرملك، حتى أن الرعية في مدينة إسطنبول كانت لا تراه حتى في صلوات الجمعة، وفضل ملازمة النساء عن إدارة الدولة، وتأليف الأشعار عن حمل السيف وقيادة الجيوش.

كان السلطان مراد الثالث يعشق الفخامة، لذلك أمر بصناعة العرش الذهبي، والذي تسلمه سنة 1585، وهو العرش الذي جلس عليه سلاطين الدولة العثمانية في الأيام المميزة، كاحتفالات الجلوس والأعياد الإسلامية حتى عام 1924م وهو عام سقوط الدولة العثمانية.

حصدت نوربانو النفوذ الهائل الذي حلمت به يوما، بعد أن حصلت على لقب السلطانة الأم في عهد سلطنة ولدها السلطان مراد الثالث، واحتفظت بلقب السلطانة الأم حتى وفاتها في 17 ديسمبر 1583، وكانت تقارن بكاترين دي مدتشي الملكة الأم في فرنسا، فكلتاهما من أصول إيطالية، وكلتاهما حصلتا على نفوذ هائل داخل القصر الحاكم في بلديهما، وأدارتا شؤون الحكم من خلال ستار، خاصة أن السلطانة العثمانية والملكة الفرنسية عاصرتا فترة تولي حكَّام ضعاف في ظل أوقات عصيبة، ولكن تبقى الحقيقة أن حكم كاترين دي مدتشي في باريس كان أكثر قسوة وفظاعة من حكم نوربانو في إسطنبول.

  كان ما أثار إعجاب السلطانة خُرَّم في نوربانو، عندما دخلت القصر العثماني لأول مرة، ذكاءها الشديد، لذلك تولت تربيتها لتخصصها لخدمة ابنها الأمير سليم، الذي أصبح سلطانا في ما بعد، وعرفت نوربانو كيف تستفيد من ذكائها في إدارة أمور الدولة العثمانية، فكانت وبحق أول امرأة تحكم الدولة العثمانية من خلف الكواليس، في ما بات يعرف باسم "سلطنة الحريم"، وهي ظاهرة استمرت لعقود كانت النساء تحكم لأن السلطان ضعيف الشخصية أو صغير السن.

من جهته، ظل صوقوللو يمارس نفوذه بكفاءة يحسد عليها في ظل حكم السلطان مراد الثالث، واستطاع أن يحافظ على النظام وسط فرق الجيش خاصة فرق الإنكشارية أكثر فرق العثمانية قوة وشراسة، كما استطاع أن يرسم بمهارة سياسة الدولة العليا في أوروبا، طوال الشطر الأول من سلطنة مراد الثالث، لكن سلطات الصدر الأعظم الذي احتفظ بمنصبه لما يقارب الأربعة عشر عاما، كانت محل حسد خاصة من وزراء الديوان، الوزير أحمد باشا، والوزير مصطفى باشا "لالا"، والوزير سنان باشا، الذين استطاعوا بمساعدة الأصدقاء المقربين من السلطان التأثير على مراد الثالث للتخلص من الصدر الأعظم، ولم يمنع السلطان من استصدار مثل هذا القرار الخطير إلا والدته السلطانة نوربانو، التي تدرك جيدا أهمية وجود صوقوللو في منصبه، لمصلحة الدولة العثمانية ولصالح نفوذها، لذلك لم تستطع حاشية السلطان التخلص من الصدر الأعظم صوقوللو باشا، إلا من خلال مؤامرة دبرت في السر بعيدا عن أعين السلطانة الأم وسمعها، التي ما علمت بما يدبر في الخفاء، إلا بعد مقتل الوزير الأعظم سنة 1579م، واستشاطت غضبا من ابنها السلطان ووبخته على ما اقترفه من جريمة بترك من دبر لهذه الجريمة البشعة في حق رجل أخلص في خدمة الدولة العثمانية.

وكانت السلطانة الأم على حق عندما اعترضت على اغتيال الصدر الأعظم صوقوللو باشا، فالدولة رغم أنها حققت انتصارات قياسية ووصلت إلى أقصى اتساع لها في التاريخ، فيرجع ذلك إلى قوة الدفع الذاتي التي وفرها السلطان سليمان القانوني للدولة العثمانية من خلال بناء جيش قوي وجهاز دولة على أعلى درجات التطور في عصره، لذلك واصلت الدولة العثمانية انتصاراتها على الرغم من عدم خروج السلطان سليم ومن بعده السلطان مراد على رأس الجيوش، وملازمتهما الحرملك، ولم تتوقف الانتصارات إلا سنة 1594م، عندما بسطت الدولة العثمانية سيادتها على معظم وسط أوروبا واعترفت دولة بولونيا، كانت في ذلك الوقت من الدول العظمى وأكثر قوة وأهمية من جارتها الدولة الروسية، كما اعترفت الدولة الصفوية في إيران بسيادة السلطان العثماني رسميا، فيما ضمت دولة الأشراف في المغرب العربي إلى النظام العثماني، لكن هذه الانتصارات ما كانت لتخفي الفساد الذي بدأ يدب في كيان الدولة العثمانية نتيجة لسياسة احتجاب السلطان وإطلاق يد الوزراء في إدارة الدولة.

الأم والجارية

كان الخطر الوحيد على نفوذ السلطانة نوربانو في حقيقة الأمر يتصاعد من داخل الحرملك، فالسلطان مراد المعروف بعشقه للنساء، حتى قيل إنه أفرط في علاقاته الجنسية مع أكثر من أربعين جارية فكانت النتيجة ذرية من صلبه جاوزت المائة، لكن جارية واحدة هي التي عشقها حتى الجنون وهي الجارية الإيطالية الأصل صفية خاتون، التي ربما رأى فيها السلطان مراد الثالث نفس صفات أمه ذات الأصل الإيطالي كذلك، وكان طبيعيا أن يمتلئ الحرملك بصراع السلطانة الأم المتمسكة بكل قطرة في نفوذها المتصاعد، وبين الجارية الشابة المدعومة بحب السلطان الوله، لم تكتف نوربانو بما حققت من نفوذ بل عملت على أن تترك بصمتها على الحرملك فعلا لا قولا، فأمرت بإعادة تصميم الحرملك من جديد، خاصة بعد أن بدأت زوج السلطان مراد، حفصة خاتون، في تهديد نفوذ نوربانو بعد أن سلبت فؤاد ابنها؛ فكان لابد من تقسيم الحرملك بما يتناسب مع نفوذ السلطانة الأم وجارية السلطان المفضلة، نزل السلطان مراد الثالث على رغبة أمه في إعادة ترتيب قصر الباب العالي من جديد، تم الاستعانة بفنون العمارة العثمانية لإعادة تصميم الحرملك، التي نفذها بمهارة أشهر معماري في الحضارة الإسلامية قاطبة، سنان باشا.

 انتصرت السلطانة الأم نوربانو في معركة الحرملك، بعد أن ضمنت زيادة مساحة جناح الحرملك بصورة غير مسبوقة، خاصة أنها جعلت من غرف الجواري البنية التحتية لجناح السلطانة الأم، فعندما تخرج السلطانة الأم من جناحها تطل من شرفة علوية على جميع أرجاء الحرملك، وحققت بذلك السلطانة الأم نوربانو انتصارها بإعلانها فعليا أن مكانتها الأعلى من مكانة أي امرأة داخل الحرملك بما في ذلك جارية السلطان المفضلة حفصة خاتون.

لم يقتصر التعديل على جناح السلطانة الأم وغرف الجواري، بل امتد ليشمل كل شيء في الحرملك تقريبا، فالسلطانة الأم نوربانو ذات الأصل الإيطالي، تأثرت ولا شك بالفن القوطي وفن الباروك الذي بدأ يغزو أوروبا وقتذاك، وهو ما تجلى في فخامة أقسام "هوتكار حماملاري" أيّ حمامات السلطان، و"هوتكار صوفاسي" أي رواقات السلطان، فضلا عن بهو الاحتفال وبهو الاستقبال في القصر السلطاني، التي ظهرت فيها جميعها فن زخرفة القباب العثمانية الشهيرة.

أحد أوجه الصراع بين السلطانة الأم نوربانو وصفية خاتون، تمثل في تخصيص جناح لولي العهد الشاهزاده محمد بن السلطان مراد من حفصة خاتون، داخل الحرملك، فالسلطانة الأم أرادت أن تضع حفيدها تحت عينيها وتشرف على تربيته، حتى إذا مات ولدها السلطان مراد، فإن السلطان الجديد محمد يعترف بسلطانها على الحرملك، واستغلت نوربانو الصراع الذي نشب بين ولي العهد محمد شاهزاده، ووزراء السرايا حول الحرب مع إيران، وهو ما شكَّل سابقة تخالف القواعد التي وضعها السلطان محمد الفاتح بعدم تدخل ولي العهد في إدارة شؤون السلطنة بشكل مباشر، وتفاديا لتنفيذ قاعدة العرف العثماني بقتل ولي العهد في هذه الحالة، تم وضع ولي العهد قيد الإقامة الجبرية في الحرملك، وهو ما جعل ولي العهد تحت سيطرة نساء الحرملك بعيدا عن مجالس رجال الدولة، ما سيكون له أثره البعيد على مستقبل الدولة العثمانية.

على كل حال، تم بناء جناح ولي العهد بالقرب من جناح السلطانة الأم نوربانو، فوق جناح والدته حفصة باش خاصكي سلطان، لتكتمل عملية التجديد الشاملة لأقسام الحرملك وتوسعته في عهد السلطان مراد الثالث، ليصبح الحرملك أكبر أقسام قصر الباب العالي، القصر الرئيسي للدولة العثمانية، وهو ما عبَّر عن روح العصر الذي استفحل فيه نفوذ الحرملك وبدأ يدس أنفه، عبر سلطاناته في شؤون الدولة.

فضلا عن بصمتها الواضحة على الحرملك، فقد اهتمت السلطانة نوربانو بالمنشآت المعمارية في إسطنبول، فأنشأت مجمعا دينيا تعليميا في حي "أوسكودار"، أحد أعرق وأقدم وأضخم أحياء العاصمة العثمانية، يضم مسجدا ومدارس دينية وخانقاه للصوفية وخانا، كما أمرت ببناء حمام شامبارلي تاش الذي انتهى المهندس المعماري سنان باشا، من بنائه بعد وفاتها سنة 1584م، وهو ما استغل دخله لتمويل كلية السلطانة نوربانو باسكودار، والحمام يعد قطعة فنية قائمة بذاتها وأحد أهم المنشآت المعمارية التي استمر تأثيرها الفني في العصور العثمانية التالية.

ولعبت السلطانة نوربانو دورا بارزا في السياسة الخارجية، وخلال سنوات توليها مرتبة السلطانة الأم عملت نوربانو على تدعيم أواصر العلاقات بين الدولة العثمانية وبلدها الأم جمهورية البندقية التي قيل إن أصولها تنحدر من إحدى أسر تلك المدينة الغنية، كما أن نوربانو كانت السبب الرئيسي في توتر العلاقات بين الدولة العثمانية وجنوا، بعد أن انحازت صراحة إلى صف البندقية عدوة جنوا، واستخدمت نوربانو في علاقاتها الخارجية شخصية نسائية بارزة في هذا العصر وهي "إستر كيرا" اليهودية، وهي شخصية تمكنت من أن تلعب دورا كبيرا في السياسة الداخلية والخارجية العثمانية، ومن خلال تغلغلها في دائرة حريم السلطان ودعم السلطانة الأم نوربانو لها، حتى أصبحت كيرا مسؤولة عن جمارك إسطنبول بفرمان أصدره السلطان مراد الثالث، وهي وظيفة ظلت تحتفظ بها لمدة نصف قرن تقريبا.

بعض المؤرخين يرى أن إستركيرا مارست نشاطاً تخريبيا في الدولة العثمانية، من خلال تزييف العملة العثمانية وترويجها، مما انعكس سلبا على مالية الدولة العثمانية، كما عملت على بيع المناصب ونشر الفساد الإداري والرشوة بين موظفي المالية، وكان لها ولدان هما إيليا ويوسف، شارك الأول والدته في عملها هذا وعلى الرغم من علم الدفتردار بزيف تلك النقود إلا أنه كان يوزعها على الجنود، تجنبا لسطوة ونفوذ اليهودية، إستركيرا، غير أن الجنود تذمروا جراء توزيع تلك النقود، بدرجة أدت إلى نشوب حركات تمرد في داخل الجيش وإعدام عدد من الوزراء، قبل أن تطيح إحدى ثورات الإنكشارية بإستر كيرا.

أحد الاتهامات التي ألقيت في ساحة السلطانة نوربانو، تلك التهمة المتعلقة بأصول السلطانة فبعض الروايات تشير إلى أن نوربانو ذات أصول يهودية، وأن أصولها اليهودية كانت السبب في إفساح الطريق أمام تغلغل النفوذ اليهودي داخل الدولة العثمانية خصوصا في قصر السلطان.

 ويقال إن السلطانة نوربانو هي التي دفعت السلطان سليم الثاني إلى تعيين اليهودي إبراهيم كاسترو وزيرا للمالية وكان كاسترو هذا قد جاء مهاجرا إلى الدولة العثمانية مع خمسمئة يهودي في عهد السلطان سليمان القانوني وذلك عام 1553، وكان كاسترو مسؤولا عن صك العملة في مصر، إذ كان الولاة العثمانيون في مصر يختارون شخصيات يهودية للقيام بالأعمال المالية، ويمكننا إرجاع ذلك إلى الخبرات الكبيرة التي كان يتمتع بها اليهود دون غيرهم، في الشؤون المالية والاقتصادية.

على كل حال توفيت السلطانة نوربانو سنة 1583م، بعد أن وضعت أساسا بات يعرف رسميا بعصر سلطنة الحريم، الذي اختفت فيه شخصية السلاطين وتواروا خلف ستار الحرملك، بينما تقدمت جواري القصر إلى الصفوف الأمامية يضعن الخطوط العريضة للسياسة العثمانية، ما جر الخراب إلى الدولة سريعا، وهكذا عندما رحلت السلطانة الأم نوربانو، سلمت مفاتيح القصر والحرملك إلى عدوتها اللدودة الجارية حفصة خاتون التي ضحكت أخيرا بعد أن حسم القدر صراعها مع السلطانة الأم نوربانو.

الصدر الأعظم

يُعد منصب الصدر الأعظم في العصر العثماني (يعادل منصب رئيس الوزراء في الأنظمة الرئاسية حاليا) أحد أهم المناصب في الدولة طوال تاريخها، فكل من يلي هذا المنصب يعد الرجل الثاني في إسطنبول بعد السلطان العثماني مباشرة، ويحمل خاتم السلطان الخاص بتسيير أمور الدولة، ويتولى إدارة جلسات الديوان ويقدم الوزراء للسلطان، كما يتولى إدارة الجيوش في حال عدم خروج السلطان على رأس الجيش، وهو وضع ظهر مع السلطان سليمان القانوني، وتعاظم في عهود خلفائه عندما امتنع السلاطين عن الخروج  على رأس الجيوش العثمانية تاركين هذه المهمة للصدر الأعظم.

وفي فترة ضعف السلاطين وتنامي نفوذ الحرملك، تحول منصب الصدر الأعظم إلى المنصب الأهم في الدولة العثمانية، كنتيجة طبيعية لاحتجاب السلاطين الضعاف داخل عالم الحرملك، بينما استغلت أمهات السلاطين الوضع في عقد تحالفات مع الصدر الأعظم، الذي يمتلك في الأصل صلاحيات مطلقة لا يحدها إلا وجود سلطان قوي الشكيمة في إسطنبول.

وكان للصدر الأعظم الكثير من الصلاحيات المطلقة كعزل الوزراء والولاة وإدارة ميزانية الدولة بنوع من الاستقلالية، ولم يتقدمه في البروتوكول إلا السلطانة الأم وولي العهد (شاهزاده) دون أن يكون لهما مثل صلاحياته الواسعة التي عبرت عنها العديد من الألقاب التي تظهر مكانة من يتولى تلك الوظيفة المهمة، منها: الوزير الأعظم، والوزير الأول، والصدر العالي، والذات العالي، والوكيل المطلق، وصاحب الدولة، والسردار الأكرم، والسردار الأعظم، وهو لقب يحصل عليه الصدر الأعظم عندما يخرج على رأس جيوش الدولة العلية إلى ساحة الوغى.