ترى فئة من أبناء المجتمع الكويتي، أن المبدع الكويتي، الكاتب والفنان، يعيش في بعدٍ وغربة عما يهدر من حراك سياسي تشهده الساحة الكويتية، خلال السنوات الحالية. إن هذه الرؤية إذ تبدو للوهلة الأولى صادقة في جزء صغير منها، لكن المؤكد أن الجزء الأكبر هو خلاف ذلك.

Ad

الفن في جوهره هو معايشة للواقع ومحاولة فهمه بتعقيداته ووعي معادلاته المتغيرة، ومن ثم اختزان التجربة، وتفريغ هذه المعايشة بشكل فني، وبأي من الأجناس الأدبية والفنية المعروفة.

إن ما يميّز الإبداع عن غيره من الكتابات التقريرية، أن الكتابة التقريرية تتسابق لتنقل حرفياً وربما لحظياً ما يدور من أحداث على أرض الواقع. وهي بالتالي تنقل أحداثاً تتضمن رؤية وقناعة كاتبها أو ناقلها، وهذا عمل جليل ومهم وفي أحيان كثيرة يكون محفوفاً بالمخاطر والصعاب، تنهض به وسائل الإعلام من صحافة ومحطات تلفزة ومواقع إنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي. لكن العمل الإبداعي شيء مختلف عن هذا تماماً، فالكاتب والفنان إذ يعايش التجربة الحياتية، فإنها لا تنفك تعتمل في داخله، وتبقى هناك زمنا، طال أم قصر، قبل أن يتحرك هو للتصدي لكتابتها أو رسمها، وهو متى ما بدأ الكتابة، فإنه يدخل مغامرة لا يعلم إلى أين ستفضي به، ويخطّ سطراً دون أن يدري ما الذي سيأتي بعده، وهكذا، فإن الكاتب أثناء الكتابة إنما يخوض في عماء!

إن القول بأن العالم أصبح قرية كونية، أصبح واقعاً ملموساً، فما بال المتابع لما يدور على أرض الوطن الواحد وفي البقعة نفسها. فأنا لا أظن أن كاتباً يعيش على أرض الكويت، هو في البعد من أحداثها السياسية، خاصة وأن هذه الأحداث، ومنذ سنوات، أصبحت تمثل الصوت الأعلى والأكثر حضوراً على مائدة الحدث اليومي. بل إن حضورها بتوهج أحداثها وتداخلها مع مختلف شؤون الحياة، بما في ذلك الإبداع والثقافة، كونهما يعتمدان على الحرية، وكون الحراك السياسي في مجمله هو حراك في بحر الحرية والديمقراطية والدستور.

إن تاريخ الأدب يُظهر بما لا يدع مجالاً للشك أن أي كتابة إبداعية لابدَّ أن يكون الواقع هو جذر لها، ولكن هذا الجذر يتم تناوله من قبل المبدع، بعد تحويره والاستدارة لقراءته من زوايا مختلفة ومغايرة لزوايا حدوثه في الواقع، وأخيراً صبّه في قالب من الإبداع بعد ان تكون المخيلة قد تداخلت مع الواقع لإنتاج نصٍ فيه من الواقع بقدر ما فيه من الخيال. نصٌ يوازي حياة الواقع، لكنه يتفوق عليها بقدرته على قول ما يعجز الواقع عن قوله، أو رسم ملامح أحداث مازالت مخبّأة في سر الغيب، أو التنبؤ بما سيكون ولو بعد حين.

لم يكن المبدع الكويتي في أي فترة من تاريخ الكويت بعيداً عما يدور فيها من أحداث، ومنذ أسس الشيخ عبدالعزيز الرشيد مجلة "الكويت" عام 1928، ولحق به نفر كثير في تدوين الأحداث السياسية شعراً وقصة ورواية ولوحة، سواء في الجرائد أو المجلات، ومن يقرأ قراءة متأنية لصفحات مجلة "البعثة" التي أصدرها في القاهرة الطلبة الكويتيون المبتعثون للدراسة هناك عام 1946، سيرى بوضوح كيف أن الإبداع كان في القلب من الحراك الاجتماعي، وكيف أن أقلام الأدباء، وأعمال الفنانين كانت دائماً رأس حربة وبوصلة يمكن النظر إليها لقراءة ما يجري على أرض الواقع.

أكاد أكون متأكداً من أن ما يجري على الساحة السياسية الكويتية، هو في القلب عند كل مبدع كويتي، وأن شيئاً منه سيأتي عاجلاً أو آجلاً، ولكن لضرورة الإبداع خصائصها التي لا يمكن الخروج عليها.