يد مقطوعة تطرق الباب
اليد المقطوعة، التي لاتزال تطرق الباب، هي يد الشاعر المبدع دخيل الخليفة، التي سجل بها وضعه ووضع فئة البدون الذين مازالت يدهم تطرق باب الترجي الذي يوارب خلفه الحلم والأمل بمواطنة تضمهم في حضن وطن، وهو موضوع طويل ودربه ملغم بأكداس الملفات والمقترحات والتنظيرات التي يطول شرحها وفك عقد شفراتها التي هي ليس لها مجال في مقال اليوم، فالذنب الذي جاء به أجداد البدون الذين قد يكونون قد أهملوا تسجيل وتصحيح أوضاعهم في وقت حصر الجنسية الكويتية، ربما كان مقصوداً أو غير مقصود، كان من نتيجته أن حمل أبناؤهم ذنبهم، وحُملوا جريرة خطأ ليس لهم ذنب فيه، أبقاهم على حافة انتظار لحلم طال انتظاره ووجع سنوات جمر مما لا يأتي.ديوان يد مقطوعة يطرق الباب بشعر مليء باليأس والقنوط المرير، وبحزن يجرجر أذياله على كل صفحات الديوان ليبصمها بخيبته التي لا ينتظر لها فجرا، «فهم كانوا يراهنون على الوقت/ ليرسموا حلما على مذبحة الخارطة/ انتهى الوقت على طنين الذباب»، كما كتب: « أينما يمموا/ يكون هواء الوطن زوادة/ فوق أكتافهم»، لذا يصرخ دخيل: «أيها الجرح الذي يتنزه وحيدا/ في خاصرة الخارطة/ أيها البلبل الذي يهرب موتاه/ إلى حياتهم الجديدة»، فالذاكرة لا يعول عليها: «أم إن كل ذاكرة ترفو ثقبها؟» ليكتب دخيل: «عن شاعر فقد قلبه/ في سهوه عصفور».
الديوان مليء بصور شعرية جديدة طازجة نابعة من إحساس حالها ومواقفها في حياتها الخاصة ووضعها الحياتي المأزوم، ومنها هذه الصور المدهشة: «يجرحني الحب حين يتلفت بلا أجنحة»، «لو أن قدما سهت عن أختها قليلا/ لداست دمعتي المتخشبة/ لو أن كلبا نبح/ لنهضت/ أجر الشارع على نصفي الأسفل»، «رسم الدوائر على خصر سنبلة/ فكر ان يخلع رأسه/ ليدوسه سادة الطلاسم»، «موغلا في تفاصيل الهواء الحامض/ يحطبُ الذكريات/ كل دمعة ليمونة تلدغ القلب».صور رائعة حية مرتعشة بجرحها المصقول بألم صادق حارق: «لم يجد في صدأ المكان/ سوى/ دمعة من ثياب/ وظل الغياب/ كان غريبا عن قشعريرة البيت/ منتهى حلمه/ وطن/ ولو بعكازين».شعر دخيل الخليفة لا يمنح المعنى كاملا، ولا يمكن القارئ من القبض عليه، لكنه يُحيل إلى إحساس ما نابض بحزن أو بخوف وفراغ وغربة دون أن تتحقق بمعنى صلف واضح جامد، فهو يعيش على حافة كل معنى، ما بين النفي والتحقق، أن تكون أو لا تكون، أن تتجلى كموجة أو تذوب كانحسار، لذا باتت مفرداته لا تحمل ثوابت إيمانها، فأغلبها ينتمي إلى الشارع والمسامير والتوابيت وموتى وأشباح وظلال لا تحمل تأكيدها، فالوطن مستحيل مثل حبيبة مستحيلة، فهم أولاد: «الجغرافيا/ مجرد خطوط/ لقتل الأرواح الخضراء/ ببرود». «كأن جروحنا اعتادت على الكي/ لماذا نقبل الحزن قبل أن ننام ؟/ لماذا نصافح العقارب بعد أن تلدغنا/ خمسين مرة؟/ لماذا نرتجف عندما يطرق بابنا الهواء؟/ أكل هذا تصنعه ورقة؟!».الشوارع والطرقات والأمكنة المنسية وجدت لها حياة ورفقة دائمة في شعر خليفة الذي رسمها محملة بجمر ألمه، فبات كلاهما في متلازمة الضياع والوحدة الباردة: «أن تنام على الشارع/ أو ينام الشارع على جسدك المتخشب/ ما الفرق؟/ كلاكما بردان/ وعار إلا من الوحشة!/ الليل لا ينضج إلا بالدمع».«أحيانا أجدني على رصيف/ والمارة لا يرونني/ أبحث عني فيّ/ لئلا أكون مجرد قدمين بلا جسد».ديوان خليفة يحمل قضية إنسانية معقدة شائكة مغروسة بآلام قلوب تبحث عن مأوى في وطن، وحتى يحتويها هذا الوطن سيبقى هذا الشعر شاهداً على زمن وجعها هذا، فالديوان كان رصداً لحالتها ما عدا القليل منه كان لحبيبة ربما تكون أيضا رمزا لوطن مثل هذه الأبيات: «أتخيلني مقبض باب/ تمسكينني/ فألثم إصبعك/ أتخيلني ستائر ليل/ تفضحين عريك في حضرتها/ فتلم كركرتك من زوايا الغرفة!/ أتخيلني مرآة/ تتلمس تفاصيل نارك المصقولة/ فتذوب فيك!».«من إشراقة صغيرة في الباب/ لعل صوت الشارع/ هو الذي رسمها عارية/ على جدران قلبه!».شعر مختوم برحيق الألم.