سميح القاسم في «كولاج 3»...
قصائد تحت سماء تعيش على دموع المقهورين
يطلّ الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، في جديده «كولاج3}، على قارئه من شبّاك لا يزال خاصّاً جدّاً، درفة منه لكائن لا يموت واسمه: الوجع، والدرفة الثانية لكائن يُذَهِّب الوجع واسمه: الجمال.
يطلّ الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، في جديده «كولاج3}، على قارئه من شبّاك لا يزال خاصّاً جدّاً، درفة منه لكائن لا يموت واسمه: الوجع، والدرفة الثانية لكائن يُذَهِّب الوجع واسمه: الجمال.
بين تنازل المجاز للجرح وتنازل الجرح للمجاز يتصدّر الجرح المشهد في «كولاج3} بكثير من الحقيقة التي تقولها الأرض وقليل من الخيال الذي ربّما إن تمادى صادر مساحة مخصّصة لدمعة أو لِـ{آخ»: «أرهقني السّير على الأشواك وفوق الجمر/ وطال الدّرب/ وتلاشى هذا القلب/ في داء الحزن وداء الشوق وداء الحبّ/ خذ بيدي... في آخر خطواتي/ خذ بيدي... يا ربّ».وعلى امتداد ديوانه، كما على امتداد حياته الشعريّة، تبقى فلسطين لسميح القاسم قِبلة المعاني، والموضوع الواحد المتعدّد في وحدته، فكأنّ تولية القلم وجهه قِبلة أخرى، ولو إلى حين، خطيئة مميتة وخيانة لا يمحوها نهرُ حِبر. ومن البداية، من فتح أوّل شراع، يبدو الشاعر أسير دائرة النار، مواجهًا نار عدوّ ومتألّمًا من نار صديق: «الطريق طريقي، ولا بدّ لي من طريقْ/ بين نارينِ،/ نارِ العدوّ،/ ونارِ الصديقْ». غير أنّ مرارة الأسر هذا تزيده اقتناعًا بأنّ قضيّته لا ينجو من رمادها أحد ولو أنّه وحيدًا يمدّها بما فيه من دم وكلمة: «هنا مركز الكون. في نار قلبي/ فلا تخطئوا يا عبادْ/ ولا تفرحوا بالرّماد».
وبين القاسم وأهله التزام كالذي بين الأزرق والسماء أو بين الأبيض وهديل الحمام، فهو المتبنّي وجعهم، والحامل همومهم بقلق نبويّ، والضنين بدموعهم وقد بكى لهم وبكوا له وقوفًا تحت سماء تعيش على دموع المقهورين: «... ويئنّ النايْ/ أنا حائط مبكاكم يا أهل الله/ وأنتم/ حائط مبكايْ!».ويرتاح الشاعر للتنويع على مستوى شكل القصيدة، ويترك الحريّة لقلمه لينتقل من طقس التفعيلة إلى طقس البيت الكلاسيكي أو العكس، على قدرة له واضحة في جعل النّغم قطعانًا في حدائق المفردات، إلاّ أنّ الجملة القاسميّة لا تحافظ دائمًا على امتلائها فيستوطنها في كثير من الأحيان المعنى العادي أو الصورة التي ليس لها ما يكفي من الطاقة الإيحائيّة: «مكثتُ وحدي بلا صَحْبٍ أعاشرهم/ على ديار غدت من بعدهم طللا». لكنّ القاسم يبدو ميّالاً إلى الخيال القريب ويحاول مجازًا لا يرتقي إلى الرمزيّة فيقع في فخّ الهدر اللغويّ أحيانًا. ولا شكّ أنّه حين يرفض التساهل مع نفسه يتقن ضغط جملته الشعريّة وشحنها بالإيحاء الكافي وتخليصها من لعنة الكلمة الزائدة التي تأخذ من درب الكلمة الآتية في مكانها: «أعزف بالشّبابه/ لدبكتي/ أعزف بالرّبابه/ لسهرتي/ وأنتذا تعزف بالدبّابه/ مخاصِرًا رشّاشك المسكون بالكآبَه».سخرية مؤلمة لسميح القاسم طرافة معجونة بالمرارة، ترتدي ثياب السخرية المؤلمة، وتستطيع احتضان العمق والأمانة للوجع والجدّة في التعبير: أنا نمرٌ نباتيٌّ/ ولي من أصدقاء السوء غزلان تحبّ اللحم/ لكنّي بلحمي المرّ والقاسي/ خذلت غريزة الناب البدائيّة/ وأسناني النباتيّة/ تطيل الضحك حين تطلّ غزلاني/ من الصحف الغريزيّه/ وتظهر في فضائيّه/ لتمضغ عشب ألفاظ نباتيّة». فكم هو مسالم ذلك النّمر المفترس العشب، الذي لم يعتنق القوّة لولا حقّ سليب وحياة مهدّدة كلّ يوم بألف موت، وكم هو مؤذٍ ذلك الغزال الكثير الذي يحترف الظهور بزيّ القداسة والجمال المستحقّ كلّ مديح. غير أنّه ليس سوى نمر يتحلّى بكلّ بشاعة الافتراس ويخفي الجريمة التي فيه بصورة غزال. والأسوأ، أنّ ذلك الغزال الدمويّ يطلّ بربطة العنق الأنيقة من الشاشات الفضائيّة وبقاموس لا تسكنه كلمة تقطر دماً...ومن القصائد اللافتة في «كولاج 3» واحدة يصير فيها القاسم اثنين أحدهما مخاطِب، والآخر مخاطَب؛ «... أنت لا تستسيغ هدوء الزمانِ،/ ولا تستطيع المكان المريحْ/ قلقٌ أنت كابن الحسين على سرج ريحْ/ أنجبتك البراكين يا صاحبي/ من جراح المسيح/ واصطفتك الأعاصير ترنيمةً لعذاب النبيّ الجريحْ». هكذا يُوَصّف الشاعر نفسه فهو المنتسب أبدًا إلى زمان متخصّص في اجتراح العواصف والضباب، وإلى مكان لا يترك فيه الشوك مساحة للراحة، وما قلقُه سوى قلقٍ يتّحد بكآبة أبناء السماء الذين سكبوا دماءهم في كؤوس المعاني النبيلة وتركوا أصواتهم وشماً على ذاكرة الدنيا. إلاّ أنّ التعب ينال حينًا من الشاعر ويشير إليه أن قُلْ للرّجل الذي فيك آن أن يزور وجهه مرآة الراحة: «... آن أن تستريحْ/ من عذاب المللْ/ يا أخي. يا ابن أمّي. ويا ابن أبي،/ يا سميحْ!».وجدير بالذّكر أنّ القاسم يترك في قلبه متّسعًا لألم الآخرين فيدعو وجعهم إلى أن يلتقي وجعه في مساحة التشابه: «قلبي يغنّي بعشق الحياة السعيدة/ لكنّ صوتي حزينُ/ كأغنية أرمنيّه». ويقف في عراء وجوديّ كثيف متضامناً مع أصغر الكائنات التي لا تصطادها شبكة العين، ولا يُدَلّ عليها بإصبع: «أعرف حزن الشجرَهْ/ حين تموت عليها/ من جوع أو بردٍ/ حَشَرَه/ أعرف حُزْن الشجرَه». وإذا كان سميح القاسم يفتح نافذته الموجوعة على وجع الأرض كلّها ويتبنّى رثاء حشرة تموت برداً وجوعاً، فإنّه وحيد في مأساته، يحلم بين موت وآخر بيقظة عربيّة تستمدّ صباحها من خزانة التاريخ: «حلمتُ بسهرة شعر وعشقْ/ على قاسيون أغنّي... وتصغي دمشقْ.../ حلمتُ بأنّي أراقص سيّدةً ساحرَه/ يسموّنها القاهِرَه»...ومن سمات القصيدة القاسميّة أنّ شاعرها يستعين بالرموز وبالميتولوجيّة، وكأنّه يعلن أنّ المأساة الفلسطينيّة لا يتّسع لها سوى صدر الأسطورة: «لا يستطيع الفارس المقنّع «زورو»/ إلاّ أن يعيد سيفه إلى قرابِهِ/ في حضرة بيل غيتس/ أمّا ستيڤ جوبز/ فإنّه قادر على إرباك السيّد روبن هود»... لكنّ هذا الحشد الرمزيّ يعطّل الإنسياب الشعريّ، وينحرف بالانفعال إلى مطارح تسيء إليه وتحجبه، لا سيّما أنّه يعتمد كثافة الأسماء في غياب تامّ للصورة الشعريّة أو للخيال بشكل من الأشكال. ولا شك أنّ الكثيرين من المتلقّين قد يكونون على غير علم دقيق بهذه الأسماء – الرموز...قال سميح القاسم، الشاعر الفلسطيني، في «كولاج 3» وجع فلسطين مرّة جديدة، وكان في قصائده جملة جديدة تشبه جرحاً جديداً، وجملة مُعادة هي كناية عن جرح يتكرّر.