مصر... والربيع الآخر
ذكرنا في المقال السابق أن مصر ستحتاج إلى أكثر من ربيع لتحقيق أهداف ثورتها بالحرية والبناء، وها هو الربيع الثاني يطل عليها وقد تخضب بالدم أيضا إنما بأيدي من يفترض أنهم "سدنتها" وكأن الاستبداد قدر محتوم على أمتنا... ليستكمل مشروع الثورة ويصحح مسارها الذي كاد ينحرف عن مساره لولا حيوية ويقظة أبناء الثورة الذين سرعان ما تحولوا إلى دروع بشرية حماية للثورة وصونا لآمالهم وطموحاتهم في الحرية والحياة.الربيع المصري الذي كان سندساً رائعاً بامتياز رسمته أنامل الثوار، والذي أعطى الأمل لأكثر من ربيع بالظهور في دنيا العروبة، يتعرض الآن للتعثر وبطء التفتح نتيجة لمروره السريع بفصل الشتاء، مما أصابه بنقص في التروية اللازمة والكافية لتشكيله وتحصينه من تقلبات الطقس المختلفة، فاسحاً المجال للطفيليات بأن تلتف عليه وتحرم أرض الكنانة من أريجه ويخضوره، بل وحولته إلى خريف لعدم قابليتها للتفتح والتأقلم مع هذا الفصل المزهر من السنة، لأنها نبتت أصلاً على القحط الحضاري "باسم السماء" رغم إصرارها على الاحتفاظ باسمه كعنوان لكي يؤمن لها شرعية البقاء.
الثورات عموما لا تحمل مفتاحاً لكل باب بل تحمل مشاريع حلول لأزمات المجتمع وتعمل جاهدة لتحقيقها بعيداً عن الخصخصة الايديولوجية، وكلما كانت العزيمة قوية كانت اللبنات الأولى مصدر اطمئنان للشعوب بأن الثورة ماضية في تحقيق أهدافها. أما الوعود المعسولة والبرامج المتورمة التي يسيل لها اللعاب من تخمتها، فهي غير قابلة للتنفيذ. تفقد السلطة مصداقيتها وتصيب الثورة باهتزاز الثقة، مما يدفع الشعب للخروج إلى الشارع للدفاع عن ثورته وعن دماء شهدائه التي أريقت ثمناً للثورة والتغيير، وتوقاً للحرية والعيش الكريم. نعترف بداية بأن شعوب الربيع العربي التي أنجزت أولى خطواتها بالانتخاب الحر قد خاب أملها في النخب الصاعدة من خلاله بعد أن أملت منها أن تكون أكثر التزاماً وأكثر احتراماً لحرية الشعوب، بل أقرب للتصوف في تنفيذ الوعود التي قطعتها على نفسها، لكن الاختيار لم يكن دقيقاً لانعدام الممارسة السياسية، ولغياب مفهوم الدولة، إذ جاءت نتيجة الانتحابات متوقعة لكنها مناقضة للهدف والحلم المعلنين، مما زاد القلق من العودة إلى الوراء في ظل تلك الممارسات غير الديمقراطية بل والإقصائية من قبل (التيار المنتخب)، الذي ألمح بسلوكه إلى أن الاستبداد القادم أسوأ بكثير من الراحل، لأنه ذو صبغة دينية ويحمل من الفتاوى والرؤى ما يجعل الهواء يرتعد من الشهيق لعدم توفر إذن الدخول للرئة، فضلا عن اعتبار الدولة الديمقراطية بضاعة مستوردة ومخالفة للنصوص الشرعية، وآخر هذه الفتاوى ما صدر عن الداعية وجدي غنيم الذي أفتى بقتل المتظاهرين لأنهم يساهمون في فشل الإسلام في الحكم.قد نجد عند التيار الديني فتوى لكل مسألة إلا مفهومي الدولة "الديمقراطية وقبول الآخر"، فلن تجد لهما سنداً عندهم سوى "التقية"، وهذه جعلتهم يستميتون بالدفاع عن الديمقراطية ودولة المؤسسات قبل وبعد الثورة وكأنهم "حزب ليبرالي" لكي تؤمنا لهما حيازة السلطة مع إضافة دور الخطابة والرشوة الغذائية كمساعدين لهما في كسب الأصوات... صحيح انهم وصلوا السلطة بالانتخاب لكنهم لم يقنعوا المجتمع بأهليتهم لها.المشهد السياسي المصري رغم حرارته فإنه غير مقلق، لأنه يمضي في تشكيل الدولة المدنية؛ دولة المواطنة والقانون، وهذه الدولة لن تسود إلا بتوفر مفهوم ثقافي ومعرفي لها. وما هذا المخاض إن هو إلا الخطوة الضرورية لتشكله وفق أسس ومفاهيم جديدة لم تكن سائدة من قبل. فها هي المعارضة المدنية قد تجاوزت خلافاتها ووقفت كالبنيان المرصوص لتدافع عن ثورتها مع حيوية منقطعة النظير لشبابها الذي أدرك أن الثورة حالة مستمرة والسقوط يبدأ بالتهاون، خصوصاً أمام خصم لا يستهان به ولديه استعداد لإشعال حرب حقيقة للدفاع عن السلطة. ومن هنا ندرك صعوبة مهمة المعارضة في انتزاع حقوق الشعب من براثن خصمها.الاستبداد الديني يعتبر أعنف أنواع الاستبداد، ويقظة الشعوب باتت ضرورة لكي تمنع العودة إلى الوراء وإجهاض أي مكسب تحقق بدمائها، والتيار الديني يُمني النفس بل يحلم بعودة الحكم المطلق الناطق "باسم الله" إلى الحياة ثانية، لذلك فهو لن يتوانى إن ساد في سلطة ما على الأرض من تسخير كل الموارد والإمكانات البشرية والمادية لتحقيق هذا الحلم على حساب دولة الواقع والحقيقة... لن نحارب التيار الديني ولكن من حقنا ومن حقه علينا أيضاً أن ندعوه إلى دولة المواطنة التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون.