في الدفاع عن غير الحالمين

نشر في 14-05-2013
آخر تحديث 14-05-2013 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت إن الكثير من فروض الإجلال والاحترام التي قدمت لمارغريت تاتشر في أعقاب وفاتها احتفت بها بوصفها زعيمة "تحويلية" جلبت تغييرات عظيمة، وكانت الإشارة متكررة إلى نظيرها الأميركي التحويلي بنفس القدر رونالد ريغان، ولكن المقارنة الأكثر تشويقاً كانت مع معاصرها في الرئاسة، جورج بوش الأب.

رغم أنه كثيراً ما يوصف بأنه كان مجرد مدير "انتقالي"، فإن بوش الأب كان صاحب واحد من أفضل سجلات السياسة الخارجية على الإطلاق في نصف القرن الماضي، فقد تمكنت إدارته من إنهاء الحرب الباردة، وتفكيك الاتحاد السوفياتي، وتوحيد شطري ألمانيا تحت ظل حلف شمال الأطلسي، وكل هذا دون عنف. ومن ناحية أخرى نجح بوش الأب في تشكيل تحالف واسع تحت مظلة الأمم المتحدة وإحباط اعتداء صدّام حسين على الكويت، ولو أساء الرجل التعامل مع أي من تلك الملفات لكان العالم الآن في مكان أسوأ كثيراً.

ورغم أنه تولى قيادة تحول عالمي كبير، فإن بوش الأب وفقاً لروايته لم يكن يسعى إلى تحقيق أهداف تحويلية، فعلى جبهة توحيد شطري ألمانيا، قاوم بوش الأب نصيحة تاتشر وغيرها، انطلاقاً من شعور بالتجرد والحماس في الاستجابة لصديقه المستشار الألماني هلموت كول. ففي أكتوبر من عام 1989، رد بوش الأب على مكالمة هاتفية من كول بالتصريح علناً بأنه "لا يتفق مع تخوف بعض الدول الأوروبية من ألمانيا الموحدة".

ومن ناحية أخرى، كان حريصاً على السماح لكول وغيره بتولي زمام المبادرة، فعندما فُتِح سور برلين بعد ذلك بشهر واحد، جزئياً بفضل خطأ ارتكبه مسؤول من ألمانيا الشرقية، انتُقِد بوش بسبب استجابته الخفيضة، ولكن بوش كان عازماً على اتخاذ قرار مدروس بعدم إذلال السوفيات أو الشماتة فيهم، فجاء رده كالتالي: "لن أخبط على صدري وأرقص على الجدران"- وهو نموذج للذكاء العاطفي في الزعيم. والواقع أن ضبط النفس هذا ساعد في تمهيد الطريق لعقد قمة مالطا الناجحة مع الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بعد شهر. لقد انتهت الحرب الباردة بهدوء، وأتى تفكيك الإمبراطورية السوفياتية في أعقاب ذلك.

وبينما استجاب بوش لقوى كانت إلى حد كبير خارج سيطرته، فإنه حدد أهدافاً أوجدت التوازن بين الفرص والقيود بأسلوب حكيم ومتوازن، والواقع أن بعض المنتقدين وجهوا إليه اللوم لأنه لم يدعم الطموحات الوطنية للجمهوريات السوفياتية السابقة مثل أوكرانيا في عام 1991 (عندما ألقى خطابه الشهير "كييف الرعديدة" محذراً من "القومية الانتحارية")؛ أو لأنه تقاعس عن التوغل إلى بغداد لخلع صدّام حسين في حرب الخليج؛ أو لأنه أرسل برينت سكوكروفت إلى بكين للحفاظ على العلاقات مع الصين بعد مذبحة ميدان السلام السماوي في عام 1989. ولكن في كل من هذه الحالات، كان بوش حريصاً على تقليص مكاسبه القصيرة الأمد من أجل ملاحقة هدف الاستقرار في الأمد البعيد.

واشتكى منتقدون آخرون من أن بوش لم يحدد المزيد من الأهداف التحويلية في ما يتصل بالديمقراطية الروسية، أو الشرق الأوسط، أو منع الانتشار النووي في وقت حينما كانت السياسة العالمية تبدو سائلة، ولكن مرة أخرى، استمر بوش في تركيزه على الحفاظ على الاستقرار العالي وليس الدفع برؤى جديدة.

وكان بوش الأب أيضاً يحترم المؤسسات والقواعد في الداخل والخارج، فذهب إلى الكونغرس الأميركي للحصول على تصريح بخوض حرب الخليج، والأمم المتحدة لاستصدار قرار بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ورغم أنه كان واقعياً في تفكيره، فإنه كان حالماً في تكتيكاته على نحو أشبه بوودرو ويلسون. فكان قرار بوش إنهاء الحرب البرية في العراق بعد أربعة أيام فقط مدفوعاً جزئياً بمخاوف إنسانية حول ذبح القوات العراقية، فضلاً عن اهتمامه بعد ترك العراق ضعيفاً إلى الحد الذي يعجز معه عن تحقيق توازن القوة مع إيران المجاورة.

ورغم أن القرار الذي اتخذه بوش الأب بغزو بنما من أجل القبض على مانويل نورييغا (وإخضاعه للمحاكمة في وقت لاحق) ربما كان انتهاكاً لسيادة بنما، فإنه كان في الوقت نفسه يحمل قدراً من شرعية الأمر الواقع، نظراً لسلوك نورييغا المشين. وعندما نظم بوش تحالفه الدولي لخوض حرب الخليج، فكان حريصاً على ضم العديد من الدول العربية، ليس لضمان النجاح العسكري، بل لتعزيز شرعية المهمة.

وعندما التقى بوش وتاتشر في أسبن بولاية كلورادو في صيف عام 1990، حذرته تاتشر كما قيل من "التذبذب"، ولكن أغلب المؤرخين يتفقون على غياب مثل هذا الخطر، فبالاستعانة بمزيج دقيق من القوة الصارمة والقوة الناعمة، نجح بوش في خلق استراتيجية ناجحة، فهي الاستراتيجية التي حققت أهداف أميركا على نحو لم يكن مفرطاً ولا ضيق الأفق، وبأقل قدر ممكن من الضرر لمصالح الأجانب. وكان حريصاً على عدم إذلال غورباتشوف، وإدارة عملية انتقال الحكم إلى بوريس يلتسين في ظل روسيا المستقلة حديثا.

بطبيعة الحال لم يكن كل الأجانب محميين بالقدر الكافي. على سبيل المثال، كرس بوش أولوية منخفضة للأكراد والشيعة في العراق، والمنشقين في الصين، والبوسنيين في يوغوسلافيا السابقة. وبهذا المعنى فإن واقعية بوش كانت سبباً في تقييد عالميته.

تُرى هل كان بوسع بوش أن يفعل أكثر مما فعله لو كان زعيماً تحويلياً مثل تاتشر أو ريغان؟ ربما كان ليفعل المزيد في فترة ولايته الثانية. وفي ظل مهارات تواصل أفضل فربما كان ليتمكن من القيام بالمزيد في تثقيف الرأي العام الأميركي حول الطبيعة المتغيرة للعالم في فترة ما بعد الحرب الباردة. ولكن نظراً للشكوك العميقة في عالم متقلب متغير على نحو لا ينقطع، فضلاً عن المخاطر المترتبة على سوء التقدير مع انهيار الإمبراطورية السوفياتية، فإن الغَلَبة كانت للحكمة وليس الرؤى الكبرى.

قال بوش قولته الشهيرة: "لم أكن معنياً بمسألة الرؤى". ورغم هذا فإن قِلة من الناس في نهاية عام 1989 كانوا يعتقدون أن ألمانيا قد تعيد توحيد شطريها سلمياً داخل التحالف الغربي. ومن المؤكد أن تاتشر لم تكن ممن اعتقدوا في إمكانية حدوث أمر كهذا. والدرس المستفاد هنا هو أننا في بعض الظروف ينبغي لنا أن نحرص على وضع القيادة بين أيدي مديرين انتقاليين بارعين مثل جورج بوش الأب (أو دوايت أيزنهاور من قبله)، وليس بين أيدي زعماء تحويليين أكثر بهرجة وإلهاما.

* جوزيف س. ناي | Joseph Samuel Nye ، أستاذ في جامعة هارفارد، ومؤلف كتاب "هل انتهى القرن الأميركي؟"، ومؤخرا تولى الرئاسة المشتركة لمناقشات مجموعة أسبن الاستراتيجية لتنظيم الدولة الإسلامية والتطرف في الشرق الأوسط.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top