قبرص... الهدوء الذي يسبق العاصفة!
في بادئ الأمر، أثار رفض حكومة قبرص خطة الإنقاذ المقترحة موجة من الشكوك حول مستقبل اليورو، كما أن التوصل إلى اتفاق بشأن الخطة لاحقاً لم يقلص من الشكوك المتعلقة بقدرة الجزيرة المستدامة على تجنب التخلف عن سداد الدين مستقبلاً.
يكمن في جزيرة قبرص ما يوصف بعناد البلقان والشرق الأوسط، وقد رفضت هذه الجزيرة القبرصية- اليونانية عشية انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي في سنة 2004 خطة طرحتها الأمم المتحدة من أجل الوحدة مع القبارصة الأتراك في الشمال، حيث قوبلت تلك الخطة بترحاب ودعم. وقد استخدمت حكومة قبرص اليونانية وأساءت استخدام مؤسسات الاتحاد الأوروبي لشن نزاعها مع تركيا ولتقديم الدعم الى روسيا.وقد أثار رفض البرلمان القبرصي الأسبوع الماضي بأكثرية 36 صوتاً مقابل لا شيء لمقترح منطقة اليورو بشأن خطة إنقاذ تتضمن فرض ضريبة كبيرة على الإيداعات المصرفية في الجزيرة، كماً من التساؤلات الجديدة المتعلقة باستقرار اليورو بل بقائه أيضاً. وقد رفعت خارج البرلمان القبرصي لافتة بذيئة تندد بأوروبا وتسيء إليها على نحو يعكس حالة الاحتقان والتحدي الذي انتهجته الجزيرة للرد على الخطة الأوروبية.البنوك المراوغةوقد تحظى مثل تلك الشعارات بإعجاب البعض، غير أنها لا تغير مسار محنة قبرص التي تعثرت ولم تعد قادرة على إنقاذ بنوكها الضخمة والمفلسة. كما حاولت قبرص تأليب منطقة اليورو ضد روسيا وسط شائعات عن استعداد نيقوسيا تقديم تنازلات إلى روسيا عبر حقول غاز بحرية "أوفشور" أو تسهيلات لإقامة قاعدة بحرية.ولكن من الذي يحمل حقاً البندقية- فرقة الإعدام أم السجين؟ وقد أثير هذا السؤال في اليونان في السنة الماضية، وقرر القادة اليونانيون إبقاء المسألة داخل اليورو، حتى لو جاء ذلك على حساب إغفال ديون علنية وسرية. وقبرص أصغر حجماً وهي تشكل 0.2 في المئة فقط من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو، غير أن أوساط اليورو تقول إنها مهمة أيضاً حيث يستطيع أحد بنوك قبرص التحايل بفتح بنك جديد في دول أوروبية أخرى بالتعاون مع بنوك أخرى مراوغة، كما أن احتمال خروج قبرص من منطقة اليورو كان سيثير الشكوك بشأن مستقبل الدول الأعضاء الضعيفة الأخرى في اليورو.في الوقت الراهن، يرى المسؤولون في منطقة اليورو أن الأمر برمته بات متروكاً لقبرص من أجل التقدم بخطتها البديلة- وربما ظن كثيرون أن قبرص ستعود إلى صوابها عندما تريد إعادة فتح بنوكها، لكن إذا أصرت نيقوسيا على عنادها وتشبثها كان القبارصة سيصبحون نموذجاً للعناد والتحدي، وبالنسبة إلى المتشددين من سياسيي منطقة اليورو فإن تفشي الأثر المعنوي هو الشكل الأكثر خطورة للعدوى.أثرياء روسيا وبسبل شتى، يمكننا رصد الفوضى في قبرص ورمزيتها السياسية بوضوح إذا ما استعرضنا طبيعة الأرقام... فمن جانبها تقول ألمانيا إن منطقة اليورو لن تقرض أكثر من 10 مليارات يورو (13 مليار دولار) من أجل إعادة رسملة بنوك قبرص وإعادة تمويل ديونها. كما أن صندوق النقد الدولي أصر على وجوب إبقاء ديون الجزيرة تحت سقف الـ100 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي وذلك بحلول سنة 2020. وأصر الرئيس الجديد لقبرص نيكوس أناستاسيادس على أن أي ضرائب ستفرض على كبار المودعين يتعين أن تظل دون الـ10 في المئة. وهذا يعني ببساطة، أن منطقة اليورو وصندوق النقد الدولي يضمنان أن تترافق خطة الإنقاذ بأخرى مماثلة من جانب المودعين، غير أن حكومة قبرص اختارت تحميل القدر الأكبر من المعاناة والأعباء على ما وفرته الجدات القبرصيات من أجل تقليص عبء الخسائر على الأثرياء الروس والأقليات الروسية في الجزيرة.وكما يحدث في غالب الأحيان، فقد أفضت السياسة القصيرة الأجل التي تبنتها نيقوسيا إلى تعثر إدارة الأزمة بصورة منطقية وسليمة منذ البداية. وكان يفترض أن يكون الاتفاق في قبرص عملية سهلة بالنسبة إلى إقامة اتحاد مصرفي تسعى منطقة اليورو إلى تشكيله. بيد أن تلك الأوضاع أثارت تساولات بشأن ما إذا كانت أوروبا تعتزم حقاً قطع الروابط بينها وبين البنوك الضعيفة والدول الهشة.صغار المودعينولنأخذ ضمانات الودائع كنموذج للجدل الدائر... ففي الأيام الأولى من الأزمة المالية رفع الاتحاد الأوروبي ضمانات الودائع إلى مئة ألف يورو بغية الحيلولة دون انهيار البنوك، وهو يجازف بذلك بالتحريض على تلك الخطوة من خلال نقض ذلك الضمان. والمعروف أن تأمين الإيداعات الوطنية تحدده بوضوح ملاءة الدولة وقدرتها على الوفاء بكل الديون التي تقع على كاهلها، والنظام الشائع لضمان الودائع في منطقة اليورو يمثل حالة منطقية متعارف عليها على الرغم من اعتراض الألمان والمسؤولين في منطقة اليورو.عند النظر إلى قضية البنوك المتعثرة التي تعصف بها الوسائل الشائعة للتعاطي مع الأزمات. كان من المفترض تبني القواعد والحلول المصرفية التقليدية والمتعارف عليها في كل واحدة من دول الاتحاد الأوروبي، ومن ثم تبدأ بتطبيق القواعد الأخرى في حال إنشاء نظام موحد يشمل منطقة اليورو. غير أن اتفاق قبرص يستخف بالتسلسل المقترح للدائنين في ما يتعلق باستيعاب خسائر البنك: فقد قرر استثناء كبار المستثمرين من حملة السندات- وهم قلة في الحالة القبرصية- وجرى معاقبة صغار المودعين.وفي حال وجود اتحاد مصرفي ملائم وسليم تصبح هناك خيارات أخرى متاحة وممكنة يمكن تطبيقها؛ وكان أحد تلك الخيارات ما تم الاتفاق عليه أخيراً بتسوية أوضاع اثنين من البنوك الكبيرة المتعثرة بصورة نظامية في قبرص. ومن شأن ذلك فرض وإلحاق خسائر فادحة على الإيداعات الكبيرة (ما يصل إلى 50 في المئة) غير أنه سيحمي صغار المدخرين ويقلص من حجم القطاع المصرفي في الجزيرة. أما الخيار الآخر فقد كان يتمثل بعملية إعادة رسملة مباشرة للبنوك من قبل منطقة اليورو، وقتذاك كان سيسهل التعامل بصرامة مع مخالفي القانون في تلك الحالة.محنة ماريو دراغيوفي خضم تشوش القادة الأوروبيين يبرز رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراغي في صورة الضامن الرئيسي لليورو، وقد أسهم وعده المشروط بشأن شراء السندات السيادية المكشوفة إلى حد كبير في استعادة الهدوء والاستقرار خلال السنة الماضية، وذلك على الرغم من عدم اختبار تلك الخطوة على الإطلاق. والأكثر من ذلك هو أن البنك المركزي الأوروربي قد كلف بالإشراف على مشرف وحيد جديد لبنك منطقة اليورو، ويفترض أن يسهم استقلاله في إضفاء صدقية إلى النظام، لكن مع تنامي المشاركة من جانب البنك المركزي الأوروبي في إدارة الأزمة فإنه يعمل على زيادة انخراطه في السياسة وتلطخه بأعبائها. ومع ضلوعه بخطة البنوك القبرصية المتعثرة واستمرار اقتناعه بضرورة حماية كبار حملة السندات في المصارف، يبرز تساؤل ما إذا كان البنك المركزي الأوروبي سيبقى مؤهلاً للقيام بمهام الإشراف المصرفي؟وفي ضوء الرفض القاطع والواضح من جانب الناخبين في إيطاليا وكذلك أعضاء البرلمان القبرصي للقيود التي تفرضها منطقة اليورو، يبرز تساؤل آخر هو: هل أُبطل سحر البنك المركزي الأوروبي وفقد تأثيره؟ ففي نهاية المطاف، تعتمد سياسته المتعلقة بشراء السندات بشكل جوهري على تقدم الدول المتعثرة إلى برنامج الإصلاح الذي تتبناه منطقة اليورو.ولا شك أنها لحظة حاسمة أن يتوصل البنك المركزي الأوروبي إلى اتفاق بشأن قبرص، لأن قدرة البنوك القبرصية على الاستمرار أو البقاء تعتمد فقط على السيولة الطارئة لدى البنك المركزي الأوروبي. ولو لم تتمكن الأطراف من التوصل إلى اتفاق في قبرص كان سيتعين على البنك المركزي الأوروبي اتخاذ قرار بشأن المضي قدما في إنذاره بقطع التدفقات النقدية خلال أيام قليلة، وكان ذلك سيؤدي بدوره إلى انهيار وفوضى، وكان بشكل شبه مؤكد سيقلي بقبرص خارج منطقة اليورو.