قارئ جديد جوليان حكيم الشعريّ {ميتينغ} لا بدّ له بعد الانتهاء من القراءة أن يجد الكلام الدّعائي على الغلاف بعيداً من الحقيقة الأدبية، إذ ليس فيه جرأة غير مسبوقة، أو اكتشاف لكواكب شعريّة جديدة، وهو على مستوى الحداثة مُنتَج متحدّر من سلالة لغويّة وشعريّة معروفة، وعليه فإنّه لن يفقأ حصرمة المفاجأة في عيني الغد: {اكتشفْ ما لم يُكتشف بعد، وما لن يكتشف!! لا يشبه ما قبله، ولن يماثل ما سوف يجيء}.

Ad

يحاول حكيم أن يأسر قارئه من أوّل البوح في دائرة الالتباس، فكلمة {عيناك} المتكرّرة مفتاحاً لأكثر من مقطع غابت عن {كافِها} الحركة، كما غاب عن الكلام الحدّ الأدنى من الضوء الذي يقود إلى ضفّة المعنى:

{عيناك رصاص قنّاص

ومليون سنة ضوئيّة

واحتدام فم تنّين}...

 

إنّها الانطلاقة الناريّة التي تعلن الحرب، وتفتح حنفيّة الدم الكبيرة، ثمّ تأتي الهدنة موشومة بالصّمت وألم الأرواح وسُمرة كعك العيد ورحيق الصلاة... وفي هذه الهدنة تأخذنا الرمزيّة إلى شرفة تطلّ على السماء، لكنّنا لا نعرف معاني هذه الهدنة إلاّ بعدما نقرأ كلمة واحدة هي كلمة {ربّاه} التي تضيء ما قبلها وما بعدها وحيدة:

{عيناك ربّاه

كيف حالهما؟

كيف حال عينيها عيناك!}.

ومن الملاحظ أنّ حكيم يخشى الوضوح فيلجأ إليه قليلاً ويطوّقه بضباب الغموض الكثيف كأنّه يريدنا أن نفهم وفي الوقت نفسه يخاف إن فهمنا أن يكون فهمُنا فشلاً له:

{عيناك أمّي حين تصلّي

وقوارير عطر للملائكة، وهلوسة مرجان الذاكرة}...

ولمزيد من الاستنجاد بالغموض يمد يده، ولو بخجل، إلى معجن الفلسفة واللاهوت:

{عيناك السبب

وتقمّص المطر للذات

عيناك الحصيلة

وتقمّص الذات للصّور}...

 

في مثل هذا الكلام تعطيلاً للحالة الشعوريّة وبالتالي الحالة الشعريّة... وبشكل مفاجئ ينتقل حكيم إلى مخاطبة بيروت التي أعادته إلى ارتشاف اللغة بعدما رمتْه طيفاً جريحاً على رصيفها:

{كنت قد أقسمتُ ألاّ أرتشف فناجين الأحرف من جديد

... إلى حين بصقتني الدنيا أمام مقهى في شارع في قلبك”...

وفي بيروت ترتاح الأنثى، كأنّ المدن بدل من ضائع للنساء”...

وأنتِ تستحمّين عارية بماء الشمس

... الآن تفتحين شبّاكاً

والآن ترشّين الماء حافية

على رصيفك السرير}...

وبيروت المرأة هي التي لا تعطي جسدها إلاّ لخيال المبدعين الذين يعيدون صياغتها بما تجود المواهب من حياة: {ثمّ تقدّمين القهوة للعباقرة الذين يعيدون تحت جسدك الحيّ أبداً}.

وربّما بهذا الكلام يحدّد حكيم علاقته ببيروت، فهو من حملة الأزاميل الذين يرونها أنثاهم المحترفة الانتقال من حياة إلى أخرى، إلاّ أنّها تعطي من يعطيها سلّة أيام جديدة أن يموت على يديها، لتتحوّل من مدينة تفيض عنها ومنها الحياة إلى رحم يابسة:

{أنتِ وحدكِ التي ستبتلعين أصواتي

وتحملين جثّتي

كي تعود إلى رحمك اليابسة أبداً}.

ومن بوح مُثقل بالرمزيّة المغلقة ينتقل الشاعر إلى كلام مباشر فقير خيال وصناعة:

{دعيني أطلب فنجان قهوة آخر،

فقد امتعض بعض شبّان المقهى

من طول جلستي

وطول سكوني وانتظاري

وارتجافي

واحتراقي...

يأتون بالفنجان الثالث

فأضعه توّاً بقرب الفنجانين الأوّلين}...

ومن بيروت يغادر حكيم إلى الله، دون أن يلحظ القارئ رابطاً بينهما سوى مزاجيّة صاحب النصّ، الذي يعرف كيف يوظّف رموزاً مسيحيّة وتوراتيّة في كتابته:

{فراح لساني ينهشني كي أسأل عنك

عن ذا الطوفان الجارف

الذي اصطفاني مجاري له

وبين السؤال عنك والحصول عليك

علّيقة مشتعلة}...

ولا يخفي التعارض بينه وبين من يخاطب على مستوى الإرادة والرغبة... ورغم التعارض الحادّ يتمسّك حكيم بإلهه تمسُّك الأبيض بالثلج والهديل بالحمام، ويجده قِبلة القبلات:

{وكلّ ما قد قيل وكتب عندنا

لا يكفي ثمن طيب لقدميك}...

وكم يذهب بنا هذا الكلام إلى المجدليّة التي غسلت قدمي المسيح بدموعها وبالطيب طمعاً بالوصول إلى السماء على بساط التوبة... التمزّق يستوطن صاحب النصّ الطويل، لأنه يخطو نحو الله بقدم تلحّ خطواً إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، أمّا في العمق فهو يفيض إيماناً حُرّاً، ولا يفصل بينه وبين خالقه إنّما يَنشُد ذاته في ذاته:

{وغصتُ أبحث في سواد عينيك

عن عينين كانتا قديماً لي}...

ومثلما يتّجه حكيم صوب الله بإيمان متكسّر غريب يحاول أيضاً تكسيراً لغويّاً وغربة ما لكنّهما ليسا جديدين على عالم الشّعر الحديث الذي يحترف الضبابيّة واستثمار الأضداد والتنويع في الإيقاعات النفسيّة المتعارضة...

ويسعى حكيم بإيمانه إلى التخلّص من حصار الجغرافية التي تتّسع لتضيق، ولتزيد الشعور بالغربة والقلق:

{أسرِقْ جوازات سفري وحقائبي ومطاراتي

اختلسْ حدودي الدوليّة

فأنتَ أرضي العملاقة

ومنك اللجوء

وإليك}.

وبمرارة يحتجّ على بشاعات الإنسان التي ترفع بين الأرض والسماء أسواراً تنجح في إبداع المأساة...

وأمام سرّ الألوهة لا يقف حكيم مكتوف اللسان، ويعلن أنّه لا يتنازل عن رأسه ولو لصالح الإيمان، وهو من عشّاق محاورة السماء:

{مُنزلٌ لا جدل فيك

وأنا أحبّ الجدل}.

وبنَفَس طويل يقول، ويستأنف ويواصل رغبةً في أن تستجيب أبواب الأسرار لمفاتيحه العاشقة والمؤمنة والمحتجّة في آن:

{اهدأ قليلاً

اخلعْ عنك نفْسك

ودعْني أستأنف ظلال قلبي}.

علامات الاستفهام التي يريد حكيم أن يثأر منها أو أن {يكسر سُمَّها} بلغته الشجاعة ستبقى علامات استفهام إلى الأبد وما الأجوبة عنها سوى إعادة صياغة للأسئلة. وحين تتعب عين العقل عنده يلجأ إلى عين الإيمان التي ترى:

{تراني ولا تراني

وأنا أراك وأراك جدّاً}.

وممّا لا شك فيه أنّ العقل لا يتقن، في المؤمن، قراءة مرايا السماء بالتفاصيل الصغيرة، إلاّ أنّ الإيمان يجعل الشاعر يرى الله مثلما وجهه على ماء بحيرة:

{حتّى أدقّ تفصيل

حتّى أرقّ شريان

... لبستُ لهاثك معطفي

 عاشرتُ أظفارك خيطاناً لثوب جلْدي}...

لا شكّ في أنّ جوليان حكيم في {ميتينغ} جازف في بناء مطوَّلة ذاتيّة، صانعاً جملة خاصّة بحدود معيّنة، غير أنّ شيئاً من التكرار الدلالي واكب هذه المطوّلة من ألفها إلى يائها.