في الماضي القريب جداً منذ ما يقارب خمس سنوات، كنا حتى ذلك الوقت نستطيع أن نميز الشخص المؤثر صاحب التجربة الفريدة والحقيقية، ونعجب بمن يتحدى مصاعبه ليصل إلى هدفه، وكانت تجربة الحياة والتحدي ومدى التأثير حقيقة، لكن الموازين تغيرت بشكل سريع مع مواقع التواصل الاجتماعي من "توتير" و"أنستغرام" و"كيك" وما إلى ذلك.

Ad

 ساهمت تلك المواقع بشهرة أشخاص قد لا يتميزون بأي شيء سوى قدرتهم على "الاستهبال" والضحك والتنكيت، وأسعدنا "استهبالهم" وأضحكنا، لكن اعتبارهم شخصية مؤثرة وتكريمهم على ذلك، بل قد يستشارون بأمور مهمة على اعتبار أنهم شخصيات فذة، ويستخدمون في تقديم محاضرات عن تجربتهم مع "الاستهبال"، ويقابلون في الراديو والتلفزيون، ويعظم شأنهم وكأنهم قاموا بعمل جبار أو عمل يستحق هذا الاحتفاء المبالغ فيه، فهنا المصيبة.

 كلنا نبحث عن الضحك والسعادة لكن من غير المنطقي اعتبار من يضحك الناس شخصاً مؤثراً وإعلامياً، واستشارته بأمور خارجة عن نطاق الضحك، فهذا ظلم للشريحة الأهم من أصحاب التجربة الحقيقية التي تستحق التقدير، وإهمال لدور الإعلامي الحقيقي في ظل وجود المهرج الإلكتروني، فبتنا نتهرب من الواقع السياسي المرير في الكويت بالهروب للضحك بطريقة مثيرة للشفقة.

حين أجد شخصاً مثل "نك فوجي" الصربي الأصل وهو محاضر متنقّل ومؤسس منظمة الحياة بدون أطراف، الذي ولد وهو يعاني متلازمة نقص الأطراف الأربعة، وهي متلازمة نادرة الوجود يعاني المصاب فيها فقدان الأذرع والأرجل كافّة، عاش حياته كطفل عُرضة للسخرية لمن حوله، مما أدى إلى إصابته بالإحباط وتعرضه لحالة نفسية سيئة في بداية مراحل حياته وتفكيره بالانتحار، لكنّه في نهاية المطاف آمن بحتميّة تعايشه مع إعاقته، وفي سن 17 عاما أسسّ منظمته غير الربحية "الحياة بدون أطراف" وقدم من خلالها الخطابات في أماكن مختلفة أرى فيه شخصية مؤثرة تستحق كل التقدير والاحترام، وهو قدوة حقيقية نظراً لما عاناه وكيف تحدى وأصبح شخصاً يبث الإيجابية، أرفع له القبعة احتراماً!

ولكن حين أجد رموز الضحك و"الاستهبال" هي من تحظى بتقدير أهم مؤسسات الدولة الخاصة والعامة فأشعر بمدى التفاهة التي وصلنا إليها، حيث إن الناس أصبحت مهووسة بكمية من يتابعك على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى أساسها يقيسون مدى شعبيتهم، ومن ثم تحديد مدى تأثيرهم في الحياة، وتلك طامة كبرى، لأن من نتابعه ليس بالضرورة إعجابا بقدر ما هو واجب أو مجاملة أو للتخفيف من مشاغل حياتنا، لا بأس من البحث عن الضحك والتسلية، ولكن اعتبار من ينقلها شخصية شعبية تستحق المال والفرص والتقدير وإهمال فئات المجتمع التي تعمل بكدح دون البحث عن الشهرة أو الشعبية لهو ظلم في حق من يستحق.

قفلة:

مع طفرة مواقع التواصل الاجتماعي نجد انتشار من يشتري متابعين فقط ليشعر بمدى قوته أمام الآخر، وهو بالضبط كمن يزوّر نتيجة انتخابات أو يخدع نفسه عن طريق الكذب على الذات، فمؤسف ما آلت إليه الأمور... فقط للشعور بقليل من الأهمية!