وكما تقضم الواجبات الأسرية من ابداعات المرأة وتحجمها، كذلك يفعل الالتزام الوظيفي، قد أكون من أولئك القلة المحظوظات اللواتي كان ينسجم عملهن الوظيفي مع ميولهن الإبداعية، كوني كنت أعمل في تدريس مواد ذات صلة بالشعر والنقد. لكنني رغم ذلك لا أستطيع أن أنكر خضوعي لدَوَران تلك الساقية المضجرة من الآلية والتكرار التي يعرفها كل من يعمل بالتدريس.

Ad

 وتبرز في هذا السياق إشكالية لا تقل وطأة عن سابقتها، وهي مأزق يعرفه الكثير من المبدعين الأكاديميين. وأعني به الصراع بين النزعة العلمية المنهجية والميول الإبداعية الفنية. فعلى قدر ما تكون الأولى عقلانية مسرفة في التقنين والحيدة العلمية، تأتي الأخرى لتنتصر للانطلاق والحرية غير المشروطين، وعلى قدر ما تلتزم الأولى بالرصانة والنمطية والتحديد، تنطلق الثانية نحو الكشف والاختلاف والتجاوز. وطالما عانيتُ خلال كتاباتي البحثية هذا التأرجح المؤلم حدّ الإعياء، وطالما خاصمتُ لغتي وروّضتُ أبجديتها، ولجمتُ معانيَّ ولويت أعناقها كي أستجيب للحدّ الأدنى من شروط الكتابة العلمية المقننة.

 إن المتأمل في حياتنا المهنية الأكاديمية ربما تدهشه عمق الهوة بين الجامعة كمؤسسة علمية وبين الالتزام بدورها في خدمة المجتمع وضخه بالوعي الثقافي والمعرفي  وخاصة في ما يتعلق بالأدب. في الوقت الراهن ومع زيادة الصرامة في قانون الترقيات الجامعية، بتنا نشهد حالة حقيقية من الانفصام التام بين "الفكر الأكاديمي"

و"الفكر المجتمعي" إن صح التعبير. إذ ما الذي يربط بين "المجلة المحكمة" مثلاً ورجل الشارع العادي أو المثقف أو حتى متميز الثقافة ؟! ليست المسألة في أن المجلة المحكمة لا تصل إلى الناس، أو لا تغريهم أو تتعالى عليهم، ولكن الخطورة تكمن في أن المجلة المحكمة أصبحت سجناً ومنفى تُدفَن فيه الكثير من العقول والمواهب، وتُحنّط بين جدرانه زهرة الأعمار وخلاصة الجهود.

 لقد مضى حين من الدهر كان فيه (الكتاب) وليس ورقة البحث المعدة للترقية، هو الثمرة الحقيقية لعصارة فكر الأكاديميين وطروحاتهم، وكان يجد له حظوة ومكانة في قلوب جمهور المثقفين والعامة. وطالما ساهمت تلك المؤلفات الأدبية والفكرية في التواصل المعرفي والتعريف بالحركات الأدبية والنقدية، والعناية بالمبدعين وتقييم نتاجاتهم. ناهيك عما تحدثه من تأثير في المزاج العام، وما تخلقه من ميول ثقافية مستنيرة ومتواصلة مع المشهد الأدبي سريع الإيقاع. لقد كانت تلك الكتب الأدبية الرائدة تعي دورها الطليعي، وترى أن الارتقاء بالذوق المجتمعي وفكره من صميم رسالتها التثقيفية والإنسانية.

 أما ما نشهده الآن في مؤسسة الجامعة، فليس إلا طوابير من الأكاديميين المستلَبين من هاجس التأليف، والمستعبَدين بما يُسمى (ورقة البحث) و(المجلة المحكمة)، والمسكونين بهمّ الترقية وهاجس الدرجة، والمحبوسة جهودهم في النهاية في سجن مجلات لا يقرأها أحد، وملفات مصفّدة بتعليمات لا تسمح بالإفراج عنها إلا بعد سنوات من الصبر والعذاب! لا يستطيع أحد بالطبع أن يقلل من أهمية البحوث العلمية البحتة، ولا يستنكر على مؤسسة الجامعة أن تستند على أقانيم المؤسسات العلمية وشروطها. ولكن حين يصل الأمر إلى هذا الحدّ من الانفصام والتغريب، لا يملك أحدنا لا أن يُطلق علامة التعجب، ويلوذ بما تبقى في قلبه من إيمان برسالة القلم!

  إن ما يُقلق في هذا المشهد هو تضخم النزعة العلمية وازدحام حياتنا العقلية والوجدانية بآلية باردة تشبه اصطكاك المعادن، في الوقت الذي يُسحب فيه البساط من تحت أقدام الإبداع والرهافة والنبض الإنساني وكل ما يمت لهم بصلة! لم نسمع في يوم ما بأن أستاذاً مُنح درجة (ولو فخرية) عن أعماله القصصية أو مجموعاته الشعرية أو لكونه كاتب مقالة مميزاً، أو لأنه وضع كتاباً جميلاً في ظاهرة إنسانية بعيداً عن قعقعة المصطلحات العلمية ومهالك النقد النظري! فكل هؤلاء يمرون كالأطياف الخفرة... يأتون ويذهبون دون أن يقووا على تحريك رواكد الجهامة واللامبالاة.