صُدم الرئيس أوباما ومساعدوه أخيراً حين لاحظوا مدى قوة المعارضة الشعبية الرافضة لدعوتهم لعمل عسكري في سورية. ولكن ما كان يجب أن يفاجأوا.

Ad

لطالما كانت الولايات المتحدة مترددة في السير إلى الحرب. ففي عام 1939، أظهرت استطلاعات الرأي أن معظم الأميركيين لم يرفضوا التدخل في الحرب ضد ألمانيا النازية فحسب، بل ما كانوا واثقين أيضاً من رغبتهم في إرسال مساعدات عسكرية إلى بريطانيا، مخافة أن يشكل ذلك على الأرجح منحدراً زلقاً.

تملك الولايات المتحدة اليوم سبباً إضافياً لتشعر بالريبة. فلم تنسَ بعد حصيلة حربَي العراق وأفغانستان. أضف إلى ذلك الخوف من أن تتحول أي حرب في الشرق الأوسط إلى مستنقع. كذلك نشهد اليوم تبدلاً جذرياً في مواقف الأميركيين من قادتهم.

تراجع المحور التقليدي للسياسة الخارجية الأميركية، ألا وهو الاحتشاد التلقائي وراء العلم الذي كان الرؤساء يعولون عليه سابقاً. ويعود ذلك في جزء منه إلى الانقسام الحزبي: يرفض الكثير من المحافظين (الذين كان من الممكن أن يدعموا العملية العسكرية لو أن الرئيس جمهوري) مد يد العون إلى أوباما في ساعة الشدة. لكن المسألة لا تتوقف عند هذا الحد. فقد بلغت ثقة الشعب بقدرة الحكومة الفدرالية على النجاح في مساعيها الحضيض، وفق استطلاع للرأي نُشر أخيراً.

هل يعني ذلك أن الأميركيين يزدادون عزلة، وأنهم يديرون ظهرهم للعالم بطريقة لم نشهد لها مثيلاً منذ قرن؟ لم يتضح ذلك بعد.

لا شك في أن ريبة الشعب بأي التزام أميركي في الخارج قد تفاقمت. أشار "مركز بيو" للأبحاث أخيراً إلى أن 46 في المئة من الأميركيين أيدوا فكرة أن "تهتم الولايات المتحدة بشؤونها على الصعيد الدولي وتترك الدول الأخرى تحل مشاكلها بنفسها بالطريقة التي تراها مناسبة".

لكن هذه ليست ظاهرة جديدة. فقد لاحظ "مركز بيو" أن المشاعر المناهضة للتدخل كانت على القدر ذاته من الارتفاع عام 1974 مع انتهاء حرب فيتنام وعام 1992 مع انتهاء الحرب الباردة. ولم تدُم ميول العزلة هذه مطولاً.

لم يعارض الأميركيون اقتراح أوباما مهاجمة سورية، لأنهم ينظرون بعين الريبة إلى المغامرات العسكرية فحسب، بل أيضاً لأنهم لم يقتنعوا بأن هذه العملية بالذات تخدم المصالح الوطنية.

يذكر أندرو كوهوت، مدير "مركز بيو" ومؤسسه: "تُعتبر هذه من الحالات الأسوأ. فلا يشعر الشعب بالريبة تجاه هذا التدخل فحسب، بل يرفضه لأنه في الشرق الأوسط، ولأن مصالح الولايات المتحدة المباشرة لا تبدو جلية في هذه الحالة بالتحديد. فلو أن الولايات المتحدة كانت عرضة لخطر حقيقي مباشر لاختلف الموقف الشعبي على الأرجح".

تُظهر استطلاعات الرأي التي أُجريت قبل صراعات سابقة أن معظم الأميركيين مستعدون لدعم العمل العسكري عندما يكونون مقتنعين بأن أمن الولايات المتحدة معرض لخطر مباشر، تماماً مثلما حدث، مثلاً، حين أقنعهم جورج بوش الابن (خطأ) أن الرئيس العراقي صدام حسين يطور أسلحة دمار شامل. في المقابل، يأبى الأميركيون دعم التدخل العسكري لأسباب إنسانية بحتة. وهذا ما اكتشفه بيل كلينتون في الصومال، والبوسنة، وكوسوفو، عمليات لم تلقَ كلها الترحيب الشعبي.

لم يحل أوباما هذه المشكلة خلال تعاطيه مع المسألة السورية. فقد طلب من الأميركيين مشاهدة أشرطة مصورة عن أولاد يختنقون بغاز السارين في إحدى ضواحي دمشق. صحيح أن هذا شكل حافزاً إنسانياً، إلا أنه لم يهدد الأمن القومي. وأعلن أوباما أن من مصلحة الأميركيين دعم القيم الدولية ضد استعمال الأسلحة الكيماوية، لكن هذا يُعتبر مبدأ مجرداً، لا تهديداً مباشراً.

سخر السيناتور جون ماكين (ممثل أريزونا الجمهوري)، الذي أيد الهجوم على سورية، من حجة أوباما قائلا: "القيم الدولية؟ لا يمكنني التوجه إلى اجتماع في إحدى بلدات أريزونا والقول إن الولايات المتحدة تريد مهاجمة سورية لتعزز القيم الدولية. فهذه ليست حجة مقنعة".

بالإضافة إلى ذلك، شدد آخرون على ضرورة توجيه الرئيس ضربة إلى سورية للحفاظ على مصداقيته تجاه إيران. صحيح أن هذه مشكلة حقيقية، إلا أنها لا تُعتبر أيضا خطراً مباشراً.

هناك تاريخ طويل لمعارضة الكونغرس طلبات قدمها الرؤساء للجوء إلى القوة. فقد اصطدم جيمس ماديسون بعقبة كبيرة في الكونغرس عام 1815. وخسر وودرو ويلسون التصويت عام 1917. وفي عام 1999، رفض مجلس النواب دعم ضربات كلينتون الجوية في كوسوفو. لكن كلينتون مضى قدماً في عمليته هذه بعد أن فاز بتأييد مجلس الشيوخ. وفي يونيو عام 2011، صوت مجلس النواب ضد منح أوباما نفسه تفويضاً بالتدخل في ليبيا بغالبية 295 صوتا مقابل 123، علما أن مبررات هذا التدخل ارتكزت أيضاً على أهداف إنسانية (جاء هذا التصويت بعد أن كانت ضربات الولايات المتحدة على ليبيا قد بدأت، فتجاهله أوباما).

يميل الأميركيون عادة إلى الانفصال عن العالم، خصوصاً بعد حرب طويلة ومكلفة (حربين في هذه الحالة)، وخصوصاً عندما تشمل المسألة المطروحة تدخلاً عسكرياً. شهدنا ذلك بعد حرب فيتنام والحرب الباردة، وها هو يتكرر اليوم.

ولكن بعد تلك الانتكاسات الباكرة، كان الرأي العام يعود إلى سابق عهده. فقد نفذ الرؤساء رونالد ريغان، وجورج بوش الأب، وبيل كلينتون تدخلات أميركية في الخارج. وعندما نجحت هذه العمليات، كان الدعم الشعبي ينمو.

أما في القضية السورية، فقد ظهر جلياً أن طلب أوباما تفويضاً للتدخل سيُرفض. ويعود ذلك إلى أن الأميركيين يبدون أكثر انعزالاً مما هم عليه حقاً. وقد عزز ذلك التحدي الذي يواجهه أوباما ومَن سيخلفه: فلن يكون عليهم التعاطي مع الأزمة في سورية فحسب، بل أيضا إعادة بناء توافق وطني يؤيد التدخل في العالم.

* دويل ماكمانوس | Doyle McManus