في أعقاب موجة الجفاف الحادة التي شهدتها الولايات المتحدة في السنة الماضية، حفلت سلة الخبز الأميركية بالكثير من التوقعات القياسية لمحاصيلها من الذرة وفول الصويا في هذا العام، وفي ضوء واقع ما تحقق في السنة الماضية، فإن المبالغة في الآمال المعقودة على حصاد هذا الموسم المتنامي من شأنه أن يعطينا سبباً وجيهاً بضرورة تدارس العبر التي تعلمناها في عام 2012.

Ad

ونظراً لتراجع مخزونات الحبوب فقد استجاب المزارعون للارتفاع في الأسعار وقاموا بزراعة المزيد من الحبوب، وعلى الرغم من أن زيادة أسعار السلع بوجه عام تعكس نذيراً على تصاعد معدلات التضخم، فإنها في الوقت نفسه تشجع المزارعين على إنتاج المزيد من المحاصيل. ويقول مثل يشيع تداوله في سوق السلع "إن علاج ارتفاع الأسعار يكمن في الأسعار العالية".

كانت وزارة الزراعة الأميركية توقعت في أواخر شهر مارس الماضي بقيام المزارعين بزراعة مساحات قياسية من الذرة لم تسجل منذ عام 1936- نحو 97 مليون أكر- بالإضافة إلى 77 مليون أكر من فول الصويا وذلك رغم احتمال هبوط تلك التقديرات نتيجة تباطؤ وتيرة الزراعة أثناء فصل الربيع.

ومن المتوقع أن يفضي ذلك كله إلى تحقيق حصاد قياسي من الذرة يصل إلى 14 مليار بوشل، وما يقارب إنتاج قياسي أيضا بالنسبة إلى محصول فول الصويا الذي يتوقع وصوله إلى أكثر من ثلاثة مليارات بوشل. وتعتمد هذه التقديرات على مستويات ومعدلات الإنتاج الزارعي العادية في ظل طقس معتدل خلال موسم الزراعة.

سبق أن حققت الزراعة في الولايات المتحدة مستويات مماثلة من قبل. ففي السنة الماضية، وأثناء الفترة ما بين شهر يناير حتى الأسبوع الأول من يونيو، منيت أسعار معظم المحاصيل الغذائية المهمة بتراجعات بلغت نسبتها 20 في المئة بسبب توقعات جني محصول غزير منها، غير أن مستويات هطول الأمطار تراجعت وتوقفت، وبحلول شهر أغسطس قفزت أسعار الذرة وفول الصويا في الولايات المتحدة إلى مستويات قياسية عالية توقعاً لما تبين أنه أسوأ مستوى حصاد لكل من الذرة وفول الصويا على مدار 6 سنوات و9 سنوات على التوالي.

الهبوط المؤقت

لا يزال كثير من تداعيات الجفاف، الذي ضرب الولايات المتحدة في موسم الصيف الماضي، يؤثر في الزراعة والاقتصاد معاً.

وعمد مربو المواشي رداً على الزيادة في أسعار الأعلاف الى تقليص أعداد القطعان التي يتم تربيتها؛ فبحلول بداية هذه السنة كان حجم القطيع الأميركي هو الأقل منذ عام 1952. وأصبحت شركات التعليب في الوقت الراهن تعاني نقصاً في الكمية المتوافرة من لحوم الماشية اللازمة للتصنيع. ونتيجة لذلك تعطلت مراكز العلف ومصانع التعليب وتوقف بعضها عن العمل بصورة دائمة، وأدى تراجع حجم قطعان الماشية إلى هبوط مؤقت في أسعار اللحوم غير أنها بدأت بالارتفاع الآن، ويظهر تقرير صدر عن وزارة الزراعة الأميركية أن أسعار الدواجن وأنواع اللحوم الأخرى والبيض ومنتجات الألبان طرأت عليها ارتفاعات منذ شهر سبتمبر من سنة 2012، فيما تغيرت بشكل طفيف أسعار الأغذية الأخرى.

موجات الجفاف

لم تقتصر تأثيرات الجفاف على أسعار الغذاء، فنتيجة لنقص كميات الذرة توقف الإنتاج في 20 من مصانع الإيثانول البالغ عددها 211 مصنعاً منتشرة في أنحاء الولايات المتحدة. وفي غضون ذلك تسببت المستويات المتدنية من مستويات المياه في نهر المسيسيبي في زيادة كلفة شحن الذرة وفول الصويا والسلع الأخرى عبر السفن وعبارات الشحن في أواخر سنة 2012، حيث اقتصرت حركة النقل على خط واحد في بعض المناطق، فضلاً عن السفن لم تكن تحمل السعة التخزينية الكاملة بسبب تراجع منسوب المياه في النهر.

لاشك أن هناك الكثير من العبر التي يتعين استيعابها من الجفاف الذي ضرب الولايات المتحدة في العام الماضي، إذا أردنا تأمين وضمان وصول أغذية سليمة آمنة ومغذية وبأسعار مقبولة لسكان الأرض الذين سيقدر عددهم بنحو 9 مليارات إنسان بحلول عام 2050، ونذكر منها أربعة دروس تستحق الاهتمام والتمحيص:

الدرس الأول، أن التجارة الحرة تعد ركيزة أساسية في الجهود الرامية لجعل أسعار الغذاء مقبولة وفي المتناول. فعلى الرغم من حدة الجفاف الذي حدث العام الماضي فإن الإنتاج العالمي من الغذاء لم يتراجع سوى بنسبة 1.4 في المئة فقط عن العام الذي سبقه. كما أن حدوث موجات جفاف منخفضة لا تسبب نقصاً عالمياً في إنتاج الغذاء. ولا شك أن بمقدورنا إنتاج معظم الغذاء وبقدر أكبر من الكفاءة والفعالية إذا عمد المزارعون إلى زراعة المحاصيل الأكثر ملاءمة لظروف الزراعة الإقليمية، وإذا تمكنا من تبادل الفوائض على نحو أكثر كفاءة، إذ يتعين أن يتمكن الغذاء من الانتقال في الأوقات ومن الأماكن المحققة للفوائض إلى الأماكن التي تعاني عجزاً وأن يتم ذلك في التوقيتات المناسبة التي تحتاج إليها تلك المواقع.

عجلة التصدير

استفادت الولايات المتحدة من هذا الجفاف الذي ضربها السنة الماضية، فأميركا معروفة تاريخياً بأنها أكبر مصدر للذرة في العالم ستستورد المزيد من الذرة في سنة محصول 2012- 2013 وبقدر يفوق حجم واردات الصين، بحسب توقعات وزارة الزراعة الأميركية. وتجدر الإشارة الى أن الذرة المستوردة منعت تقليص عدد القطعان السنة الماضية بشكل أكثر مما يجب، كما أن تقليص الزيادة في أسعار الأغذية ذات الصلة بالجفاف في الوقت الراهن تعود بصورة جزئية إلى أن منتجي اللحوم والألبان في الولايات المتحدة أقبلوا على استخدام الذرة المستوردة من أميركا اللاتينية من أجل إطعام قطعانهم.

وفي عالم مترابط بشكل متزايد، يتسبب حظر التصدير والتعريفات الجمركية والقيود التجارية المشوهة ومعايير الاستيراد غير المتناسقة في الإضرار بشدة بحرية انتقال وتدفق السلع الغذائية مما يؤدي إلى تفاقم نقص الأغذية على الصعد المحلية وبالتالي يقودنا إلى حدوث زيادات في الأسعار. فهناك أكثر من 1300 بند للتعريفات الجمركية المفروضة على المنتجات الزراعية والمنتجات الغذائية لدى منظمة التجارة العالمية، من بينها أكثر من 100 بند يفرضه الاتحاد الأوروبي وتشمل أغذية مهمة مثل البروتين الحيواني والأرز ومنتجات الألبان، وكلها تلحق الضرر بالمستهلكين في أنحاء متفرقة من العالم.

الوقود الحيوي

الدرس الثاني، هو أن الأسواق تعمل بصورة أفضل من إجراءات التفويض الرامية إلى تخصيص إمدادات الغذاء والتحكم فيها، وقد شجعت أسعار السلع التي ارتفعت نتيجة نقص المؤن، المزارعين في كل مكان- وليس في الولايات المتحدة فقط- على زراعة المزيد من المحاصيل. غير أنه أثناء أوقات قلة المؤن والمعروض من السلع الغذائية فإن تخصيص محصول حيوي ومهم، مثل الذرة، لإنتاج وقود حيوي يحمل في طياته عواقب غير مقصودة تؤثر في أسعار الغذاء والأعلاف في الدول الأكثر فقراً. ولا جدال في أن الوقود الحيوي له دور فعال- من وجهة نظري- غير أننا بحاجة إلى سياسات أكثر استجابة مرونة للتعاطي مع أوضاع العرض والطلب.

الدرس الثالت، يتمثل بضرورة اعتماد تقنية من شأنها مساعدة المزارعين على زيادة إنتاجية الأراضي الزراعية حتى لو كانت المساحات المزروعة أقل. وتشير بعض التقديرات إلى أنه يتعين علينا تحقيق زيادة في الإنتاج الزراعي بنسبة لا تقل عن 70 في المئة خلال العقود الأربعة المقبلة من أجل مواجهة الزيادة في عدد السكان.

ويتعين تحقيق تلك الزيادة من دون أن نشرك الأراضي الحساسة في عملية الإنتاج وذلك من خلال العمل على خفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري الناتجة من الصوبات الزراعية، واستخدام كميات أقل من الماء والمواد الكيماوية. سيكون بمقدورنا تحقيق ذلك الهدف فقط من خلال حصولنا على موافقة المجتمع على استخدام الطرق العلمية السليمة والمؤكدة، بما في ذلك المحاصيل المعدلة وراثياً من أجل إنتاج الغذاء.

الدرس الرابع، الأكثر أهمية الذي يمكن استخلاصه من جفاف سنة 2012، ويتمثل بأنه لا يتعين على عالمنا أن يعتبر إنتاج الغذاء من الأمور المسلم بها، حيث إن إنتاج الغذاء سيكون معرضاً على الدوام لكل حالات عدم اليقين وعدم القدرة على التنبؤ بأوضاع الطقس والمناخ، ومن ثم فإننا لن نتمكن من بلوغ غاية الوصول إلى عالم ينعم بغذاء آمن إذا ترافقت تلك المخاطر الموروثة بسياسات واهنة غير رشيدة.

Greg Page

* رئيس «مؤسسة كارغيل».