كانت الفترة في بداية ربيع سنة معطاءة... عاد راعي الأغنام سعيداً ومرتاح البال مع ساعات المساء المتأخرة، ولدى ولوجه بوابة الدار المتسعة إلى "الحوش" الكبير وراء آخر شاة في قطيع كله من الأغنام السوداء امتلأت رئتاه برائحة اللحم المسلوق بشراب "الجميد"... فتذكر أنه في مساء الليلة الماضية أدرك إحدى عنزات القطيع وخلصها من بين أنياب ذئب مفترس، هاجمها في لحظة غفلة، وأنه ذبحها ذبحاً حلالاً، وعاد بها إلى بيت صاحب القطيع.

Ad

ما إن شم رائحة اللحم المسلوق بشراب "الجميد" حتى تحركت أفاعي بطنه، فتخيل منسفاً كبيراً تتراكم فوقه أرطال من اللحم الشهي، فخاطب نفسه همساً: "الليلة ليلتك يا إمناحي... لقد مرَّت ثلاثة شهور لم ترَ اللحم خلالها إلا في أفواه الآخرين وبين أيديهم... الليلة ليلتك يا إمناحي... لقد سئمت الخبز الخامر والبصل... آخ يا إمناحي كن شجاعاً في الهجوم هذه الليلة، واحفر قناة عريضة من طرف المنسف حتى طرفه الآخر".

كان غارقاً في أحلامه الجميلة، ولم يكن في ذهنه ورأسه وبين عينيه سوى المنسف الكبير الذي تعلوه ربوة من اللحم يتوسطها رأس فاغر الفم... لسانه يتدلى من زاوية شدقيه، وأسنانه تبدو صفراء تحمل بقايا حشائش ربيعية من الأعلى، ومن الأسفل تبدو مزنرة بالسواد دلالة على أن صاحبتها قضت نحبها بعد أن تقدم بها العمر، وغدت "هرمة" لكنها كانت "هرمة" سمينة، ولحمها سيكون لذيذاً في هذا اليوم الربيعي اللاذع البرودة، مع أنه إذا أكله فسيضطر إلى ازدراده ازدراداً، لأن مضغه سيكون في غاية الصعوبة.

... يا إمناحي... سمع النداء فانتفض وخرج من لُجّة الحلم الذي كان يغرق فيه... وعندما أصبح وجهاً لوجه أمام "العمة رفْعة" قالت له: "يا إمناحي... إن البهائم السارحة التي يبدو أنها هذا اليوم ذهبت بعيداً لم تعد، ولأن الوقت أصبح متأخراً فإننا نخشى عليها من الذئاب التي يزداد شرهها وتزداد شراستها في مثل هذا الوقت... اذهب وابحث عنها، وإذا عدت بها سالمة فإنني سأفتح لك باب الدُّكانة، بعد أن تتناول معنا لحم العنزة، التي عدت بها الليلة الماضية، وأتركك تأكل من الحلاوة اللذيذة والتمر الشهي ما تشاء".

إنه عرض مغر وسخي... وانطلق إمناحي إلى خارج القرية يسابق الريح، وبعد نحو ساعتين عاد بالبهائم يملؤه الفخر والاعتزاز، فكان له ما وعدته به "العمة رفْعة"، فبعد أن ازدرد من لحم وشحم العنزة، التي خلصها من بين أنياب الذئب الشيطاني الليلة الماضية، حتى ارتفعت خاصرتاه دلف إلى الدكانة، فملأ باقي فراغات جوفه بالحلاوة والتمر و"الجُعيْجبانْ"، وعاد إلى جلسة السهرة كنمر فرغ من أكل قطعة من فريسته.

جرى الحديث كالعادة حول الذئاب... والدواب المفقودة... وأسعار الخراف هذا العام... وفجأة، وبينما الجلوس يتداولون الأحاديث المعتادة نهض إمناحي، وبدون أن يقول شيئاً انطلق راكضاً نحو بوابة "الحوش" الواسعة، وفتحها بسرعة وولى هارباً... فلحق به الجالسون بعد أن تخلصوا من ارتباكهم وذهولهم... بقي هو يركض... وهم يركضون وراءه... وعندما غاب عنهم نهائياً واختفى بين أمواج "الخُبيزة" الربيعية المرتفعة... أخذت العمة رفْعة تولول وتنادي: "يا إمناحي... يا إمناحي يا حسرتي لقد خطفه اللصوص... لقد قتله الغزاة... يا إمناحي... ي... ي".

بعد أن ازدادت ولولة "العمة رفْعة"، وتعالى صراخها، رد عليها إمناحي، وهو يعتصر ألماً، ويحاول التخلص مما بجوفه، بعد أن داهمه إسهال قاتل شديد: "آه... آه"، فقالت العمة رفْعة لمن حولها: "يا حسرتي قتلوه"... فتقدم الجميع بتردد وتوجس وخوف بانتظار أن يجدوا إمناحي مطعوناً بخاصرته بشبرية "هوشانية" طويلة النصل، لكنهم وجدوه "مُكعمِزاً"، وفقاً للهجة الأشقاء الليبيين المحببة، وهو يئن ويتأوه ويحاول الضغط على جوفه بقوة ليخرج باقي ما تبقى فيه.