لفترة طويلة ظلت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، نشرت عام 1966، وكاتبها السوداني الطيب صالح حاضران يمثلان الأدب السوداني، وكأن لا شيء غيرهما، حتى بعد انتقال الطيب إلى جوار ربه. لكن أسماء سودانية كثيرة أثبتت حضوراً إبداعياً لافتاً، ومؤكد أن أمير تاج السر هو أحد الروائيين السودانيين الذين استطاعوا عبر أكثر من عمل روائي أن يحفروا اسماً روائياً سودانياً وعربياً وعالمياً.

Ad

«رعشات الجنوب»، الصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع بالاشتراك مع الدار العربية للعلوم، ناشرون، بطبعتها الأولى 2010، هي رواية سودانية باقتدار، تقدم العوالم السرية المغلقة لأكثر من مدينة في السودان، على مستوى الأبطال والمكان والحدث، ويُحسب للرواية أن يكون المكان بطلاً حاضراً في كل مشاهدها، وهذا البطل/المكان، قلما يكون حاضراً في روايات عربية كثيرة.

«رعشات الجنوب» تأتي على لسان راو عليم، يقود النص وأحداث الرواية من أول كلمة حتى آخر جملة في الرواية، وهي وقوف روائي مبدع أمام حياة أهل مدينة «مداري» السودانية، بشخوصها وبيئتها وعوالمها الخفية الساحرة. وإذا كان الفن قد جعل المتعة مقياساً للاعتراف بعلاقة القارئ والمتلقي بالعمل الفني، فإن معايشة أحداث «رعشات الجنوب» تقدم متعة حقيقية للقارئ، عبر لغة المؤلف السلسة والمنسابة والقادرة على تقديم عالم مزروع في بيئته المحلية ومعانق للإنساني. وعبر الخوض في الغرابة، على مستوى الشخوص والحدث، بالرغم من انتسابها لواقع معيش. وهذا يعيد القارئ إلى تأمل مقولة: فنتازيا وسريالية الواقع أكبر حجماً من أي خيال مجنح للكاتب.

الرواية تسرد تقلبات حياة بطلها «رابح مدني» الذي عاش حياة ملطخة بطين الوجع والمغامرة حتى حاز موقعاً اجتماعياً عالياً بتأسيس محله «لوازم» بما توفر له من شهرة كبيرة ليس في مدينة «مداري» بل وفي كل نواحي الجنوب السوداني. لكن رابح مدني يموت متأثراً بجملة ملفقة يقولها «ساحر» السيرك، بإيحاء من صديقه «عمبابا»، وبما يحمل دلالة كبيرة بأن الخرافة مازالت رغم وجود العلم والطب الحديث قادرة على أن تفعل فعلها في بعض البشر أكثر من أي علم، وقادرة على أن تأخذ من يؤمن بها إلى حتفه متى ما تمكنت منه وصارت هاجسه الأوحد.

وإذا كان مدني قد مات متأثراً بجملة رجل يدعي السحر، فإن أمير تاج السر، يبدو ساحر الرواية الأكبر، فهو في كل ما يروي يفتح صندوق السر والغرابة والعجائب ليأخذ القارئ إلى دنيا الحكايات العجيبة، ومن بين سطور الرواية لا تنفك أن تنبعث شخصيات إنسانية الواحدة تلو الأخرى، لتؤدي كل شخصية دورها، وتختفي مفسحة المجال لشخصية أخرى. وفي هذا يبدو أمير تاج السر متمكناً من نصه يمسك بخيوط روايته كأجمل وأدق ما يمكن، ويقلب صفحات كتابه بسلاسة متناهية، دون أن يكشف عن أسراره حتى آخر صفحة في الرواية. كما يبدو واضحاً استناد المؤلف وتوظيفه واستفادته من خبرته ومعلوماته الطبية كونه طبيباً عاماً ممارساً لمهنة الطب، حيث الكثير من المعلومات عن الأمراض والعلل، وتداخل ذلك مع الطب الشعبي والموروث في البيئة المحلية.

إن تأملاً فاحصاً في لغة الرواية يدلل على تمكّن واضح لدى الروائي من خلط الفكرة المجردة بما هو حسي، وبما يجعلها أقرب إلى التصور: «فكّر في لهجة الجريح ولم تبد له عدائية أبداً، ولكن كأنها يد نشال خفيفة، دخلت الجيب، ولم تسرق منه شيئاً» ص88، وكم هو جميل أن تكون اللهجة يد نشال؟ وما تراها تفعل تلك اللهجة النشالة حين تدخل القلوب وليس الجيوب؟

«رعشات الجنوب» رواية تقدم السودان كأجمل ما يكون.